اليمن

أحمد عز الدين : النموذج يتصدع .. تحولات هائلة في سلعة الأمن ..!

مع الباحث في العلوم العسكرية احمد عزالدين

شبكة المحيط الإخبارية//

بقلم : أحمد عز الدين
استعدت تلقائيا وأنا أقلّب في عدد من الكتابات والآراء ، التي سعت إلى أن ترسم صورة لمستقبل العالم بعد كورونا ، ذلك الحوار الذي جرى بين باحث صيني وأستاذه الأكاديمي الغربي عندما تصادمت رؤيتهما في إحدى قضايا البحث ، إذ قال الباحث الصيني للأكاديمي الغربي : أتصور أن المشكلة سببها الوحيد أن بيننا تناقض في الرؤية ، فأنت ترى العالم على شكل خط مستقيم ، وأنا أراه على شكل دائرة .
والحقيقة أن آفة التفكير الخطّي أصبحت توزع أعراضها على الأغلب الأعم مما يُكتب في هذا الحيّز ، والذي يقدم نتائجه على أنها نهائية ومحصّنة ، وأنها تمسك بجوهر التغيير الذي سيخلفه هذا الزلزال ، وهو يحرث الأرض ، وهذه العاصفة وهي تقتلع كثيرا من الجذور ، ولا أقصد زلزال كورونا فقط ، ولا العاصفة التي أنجبها ، وإنما ما استبقها وتداخل معها من أزمة اقتصادية هيكلية عالمية ، عبرت عن نفسها بأشكال وصيغ بالغة الوضوح ، سبقت الإشارة إليها ، ثم تداعياتها التالية وما أدت إليه الآن من حالة ( انكشاف ) كامل ، تبين معها أن أغلب الواجهات الزجاجية الغربية التي استخدمت أسطع الأضواء ، وأسخن الألوان ، وأبدع الديكورات ، كانت مجرد واجهات أمامية للعرض فقط ، وأنها أخفت ما في عمقها من أبنية متداعية وعلاقات مأزومة ، وتوازنات مختلّة .

من المؤكد أن المستقبل لا ينمو من عوامل ليست قائمة في الواقع ، ولذلك فإن هذه العوامل القائمة في الواقع تعطي قناعة بأن التغيير القادم الذي سيحدد وجه المستقبل لن يكون شكليا ، وإنما عميقا ، بل إنه لن يكون الأعمق والأكثر جذرية فحسب ، ولكنه سيكون الأعنف ، وأنه ليس كما يرصد الكثيرون الآن ، مجرد انتقال مركز السلطة الدولية والنفوذ من دولة إلى دولة ، أو من نظام قطب واحد إلى نظام متعدد الأقطاب ، فهذا تبسيط مخلّ ، لعملية تاريخية كبرى تحمل في طياتها ولادة انقلاب استراتيجي كامل ، ولهذا فإن التغيير الذي سيحدد ملامح هذا المستقبل ليس خطيّا ، وليس على غرار معادلة كيماوية بين مادتين ، ستنتج مادة مركّبة جديدة ، أو ستفكّك مادة لحساب أخرى ، ذلك إنه تفاعل مفتوح أمواجه ليست على السطح وإنما في القاع ، وزلزاله لا يطول أسطحه وإنما قواعده ، وعواصفه لا تهب من اتجاه واحد ، وإنما من كل اتجاه .
إن العالم كله مادة وعناصر وقواعد ومفاهيم ومؤسسات وأنظمة وقوى ، محشور الآن في أنبوبة اختبار على مقاسه ، أيا كان موقع كل طرف فيها ، لكن الأنبوبة نفسها فوق موقد مشتعل على مقاسها ، وهذا العالم بمكوناته الأولية ومواده الأساسية ، وأطواره المستجدّة ، في حالة تفاعل مفتوح ومركّب ، يصعب حساب نتائجه الجوهرية على نحو دقيق ومحدد .
إنني أحسب أن أولئك الذين يتصورون أن الحكام الحقيقيين في الولايات المتحدة وفي الغرب عموما ، الجالسين منفردين فوق قمة النظام الدولي ، سوف يسمحون بسهولة ويسر ، بإزاحتهم من فوق القمة أو مشاركتهم فيها ،بحكم هذا الانكشاف والتغيير المشهود في موازين القوى ، وأنهم أمام تداعيات هائلة لا تخطئها عين ، سوف يرفعون الراية البيضاء ويسلمون أنفسهم وعقائدهم ومصالحهم ومصائرهم طوعا ، إنما يعبرون بذلك عن تفاؤل جامح مغموس في صندوق من النوايا الحسنة .
ربما لا أكون مبالغا إذا قلت أن مركز القرار والقوة في الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد موجودا في الواجهات ، لا في البيت الأبيض ولا في الكونجرس ، حيث يبدو أنه انتقل حثيثا إلى البنتاجون ، ولذلك فالخطاب الأمريكي الحقيقي لمن أراد أن يتابع ، لا يصدر من البيت الأبيض ولا من الكونجرس وإنما من المؤسسة العسكرية ، في تنظيم تعاون وثيق مع المخابرات المركزية ، ولست أقصد الخطاب العسكري ، وإنما الخطاب السياسي ، كما هو متعارف عليه ، فالبنتاجون هو الذي صرح بأن العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج لن تتوقف ، وهو الذي وضع السيناريو “الأسوأ” ، أو قل “الأسود” ، لاحتمالات الأوضاع في الداخل الأمريكي ، تحت عنوان انتشار العنف على نطاق واسع ، ووضعه منهجيا ، في الترتيب الأول للاحتمالات ، وأجرى في إطاره تدريبات لوحدات أساسية في منظومته القتالية ، لقمع عصيان مدني محتمل ، واختار وعين قائد القيادة العسكرية الشمالية الجنرال ” تيرنز اوشونيسي ” رئيسا محتملا للولايات المتحدة ، في ضوء هذا السيناريو ، وحتى في ظل معلومات عن إصابات بالفيروس في صفوف وحدات أمريكية ، فقد كان البنتاجون هو الذي منع تداول أي معلومات خاصة بالإصابات في صفوف الجيش والقوات الأمريكية ، واكتفى وزير الدفاع بالإعلان بنفسه عن وفاة جندي واحد ، وقد يبدو ذلك كله أثرا مباشرا يحيط باحتمالات صعبة في الداخل الأمريكي ، لكنه قد يبدو مدهشا في إطار الصورة الكلية الحالية ، أن ينقل الجيش الأمريكي أعدادا من صواريخ الباترويت إلى العراق ، بل وأن تشهد في أوج الأزمة قاعدة ” أجلن ” الجوية في نيفادا ، قيام طائرة أف 15 باختبار لأحدث قنبلة نووية في الترسانة الأمريكية ، وهي من طراز “بي -61-2 ” وهي قنبلة نووية حرارية ، ذات جهاز تحكم جديد ، يضيف زيادة كبيرة في دقتها ، مع قوة متغيرة عن سابقتها من 50 كيلو/طن إلى ميجا /طن ، لتكون قادرة على القيام بجميع المهام التي تقوم بها أنواع متعددة من الذخائر والأسلحة ، والحقيقة أن أكبر الجهود الأمريكية على جبهة التطوير والتحديث العسكري ، خلال الأعوام الثلاث الأخيرة ، كانت موصولة بموضوع ( الثالوث النووي ) وفي بريطانيا نفسها ، وفي أوج الأزمة وبعد أن أخفى رئيس الوزراء نفسه خلف حائط زجاجي ، واصل الجيش البريطاني شحن كميات من الأسلحة إلى مناطق في الإقليم ، وفي التوقيت ذاته وحتى بالنسبة لليابان التي يقر دستورها نصا على إسقاط حق الدولة اليابانية في خوض الحرب ، يتم توسيع اختصاصات ( قوات الدفاع الذاتي ) وتعميق تسليحها ووظائفها في تحول كبير غير مسبوق في صيغة العلاقات المدنية العسكرية .
ماذا أريد أن أقول مبدئيا في هذا السياق :
أريد أن أقول – أولا – أننا أمام سيولة شديدة في مجرى متغيرات عاصفة وأحداث جسام ، بعضها مصنوع بفعل صدام بين قديم على الأرض يقاوم الهبوط ، وسوف يقاومه بكل مخزون أسلحته وذخائره ، وبين جديد فوق الأرض ، يسعى إلى ترجمة استحقاق يراه بحكم متغيرات في موازين القوى إلى صيغ حضور وتأثير ، وأن هذا الصدام بظواهره ، وطاقة اندفاعه الكوكبيّة ، يؤذن بقلاقل غير متوقعة ، وأزمات غير محسوبة ،ومصائر مفتوحة ، وقد يرى البعض في ذلك تطرفا متشائما ، أكثر مما تنطق به الوقائع ، خاصة وأن هناك مظاهر واضحة لتعاون أمريكي صيني ، فيما يتعلق بتداعيات كورونا ، إلى جانب مظاهر أخرى لتعاون أمريكي روسي فيما يتعلق بانعكاسات أزمة أسواق النفط وأسعاره ، وفي الحالتين فأحسب أننا أمام صيغ محدودة ومحددة للتعاون ، تحتمها حاجات أمريكية عاجلة ، ولكنها موقوتة أمام استجابة صينية وروسية يفرضها ما ينبغي أن يضاف إلى وجوه قوى صاعدة ، من ملامح إنسانية غالبة ، مثلما كان حال الولايات المتحدة نفسها في مقدمة مرحلة صعودها ، قبل سطوتها .

وأريد أن أقول – ثانيا – أن أكثر ما هو مقطوع بصحة وجوده في عمق المشهد الراهن ، وما هو أكثر حاجة للتركيز عليه ، واستخلاص تحولاته ومظاهره المستجدة ، ليس فقط أن سلعة الأمن قد أصبحت هي الأعلى سعرا والأرفع قيمة ، كما كررت مرارا ، ولكن في أن جسمها نفسه قد تضخم إلى حد كبير ، كما تغيرت واتسعت مفاهيمه مواكبة لذلك ، فلم يعد الأمن الداخلي على سبيل المثال ، قرين مفهوم ( الأمن العام ) وإنما أصبح قرين مفهوم ( الأمن السياسي ) وهو المجرى العام الذي تنصب فيه كل أشكال ومعايير ومفاهيم الأمن ، خاصة في ظل تعقيدات وتحديات سياسية واقتصادية واجتماعية ، غير مسبوقة ، وخاصة أيضا مع تعدد في منصات الاختراق الأجنبي ، وتنوع أشكال وأعمال حروب المخابرات ، ومع انفتاح الجسور عريضة وواسعة ، بين الأمنيين الداخلي والخارجي .

إن الدولة القومية بذلك أمام تحد وجودي بازغ ، وانهيارها في هذه المرحلة لن يكون بفعل تغيير ثوري ، وإنما بفعل ما سبق وأن أطلقت عليه ( كسارة البندق ) أي بفعل الفشل في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية معا .
إن بعضا مما قلته يحتاج إلى تفصيل ، وبعضه يحتاج إلى توضيح ، لكنني قصدت في هذه الوقفة على مسار أزمة أحسبها ممتدة ، أن نتجاوز مرحلة النظر إلى سطح الأزمة ، وأن نطلق عيوننا وعقولنا نحو قلبها المحتقن .
وللحديث بقية …

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى