سوريا

اقرأ كتابين شهرياً | رواية “وصايا الغبار”


اقرأ كتابين شهرياً” بادرة ثقافية أطلقتها رابطة الكتاب السوريين في مطلع عام 2024، بهدف إتاحة فرصة الاطلاع على الأعمال الأدبية وتعريف القارئ بمؤلفيها ونتاجاتهم في ميادين: الرواية، القصة، الشعر… ومختلف الفنون الأدبية.

ولتحقيق ذلك، سيعمل موقع تلفزيون سوريا بالتزامن مع صفحة رابطة الكتاب السوريين، وبصورة شبه يومية، على نشر فصول متسلسلة من كلاسيكيات الأدب السوري، وتقديمها للقارئ بدون الحاجة إلى شراء كتبها أو تحميلها. الكتاب الواحد لن تستغرق قراءته أكثر من 15 يوماً؛ والمطلوب من القارئ تخصيص ربع ساعة فقط من يومه لقراءة الجزء المنشور من الكتاب. وفي نهاية كل عام سننهي سويّة قراءة 24 كتاباً مميزاً.

قببب


  • رواية “وصايا الغبار” للكاتب مازن عرفة – الحلقة الثالثة

صديقي

صديقي رجل نزق، انفعالي، متوتر بشكل دائم، إلا أن ملامح وجهه تمتلك تعابير الثقة بالنفس، مما لا يعكس قلقه الدائم في داخله. وبالرغم من غرابة جسده الممتلئ وهامته القصيرة فإنه يمتلك وسامة تجعله إلى جانب حديثه الممتع محبوباً قريباً من القلب، وبشكل خاص بين الفتيات. يعيش حريته الشخصية منفلتاًً من القوانين والتحريمات، فلا يقف شيء أمام جموح خياله، وخاصة عندما ينظم أشعاره، التي يلقيها دوماً في أثناء لقاءاته المسائية مع أصدقائه، بحيث يختلط الشعر بالحديث اليومي. وإذا ما شعر بالضجر من شخص ما، يبتعد عنه، ويتخلى عنه ببساطة مهما تكن العلاقة بينهما، وإذا ما أحب شخصاً ما يبقى يشرب معه نبيذاً ويلقي عليه أشعاره، والتي غالباً ما ينسى تسجيلها. “سيأتي دائماً غيرها”، هكذا كان يقول.

“العنب ذاكرة الأرض منذ أقدم العصور، يختزن حنين الأيام للكلمات التي ترتسم شعراً، ومن لا يصنع نبيذاً من العنب وينتشي به حتى الثمالة يفقد رائحة الأرض والقدرة على استحضار الكلمات، ويصبح عندئذٍ بلا جذور ولا حنين، مطروداً من جنة السكارى الحالمين” يردد دائماً.

أسأله “وشِعرك المجنون”.

“هو نشوة النبيذ المعتق، الذي يجعلك تعود حراً عارياً، تتمدد على أغصان شجرة عالية تصل بك إلى النجوم، وتسخر من الذين تحت، الغارقين في خوائهم الروحي”، يلفظ هذه العبارة وهو مغمض العينين، وكأنه يحلق عالياً بخياله.

“إذن لا شِعر دون انتشاء بنبيذ معتق، يا صديقي”،

“بدونهما لا تولد الأشياء والكلمات، وعندما أموت سأطلب من الأصدقاء أن يدفنوني تحت كرمة، وليتركوا لي أوراقاً وأقلاماً وشمعة في القبر لاستمر بكتابة الشعر، وعندئذ سترى كيف سيعرش السهل كله بكروم عنب، وسيزداد عدد السكارى الحالمين”.

“وهل يوجد مكان للمطر والموسيقى في كل هذا؟”، أسأله وكليّ رغبة أن أجد تقاطعاً بين عالمينا.

“ستجعلنا الأيام نرى إذا كان هناك علاقة بين الشعر والمطر، وبين الموسيقى والنبيذ”.

يأتي الشعرُ صديقي من رغبته بالتمرد وعدم رضاه عن كل ما يدور حوله، يلقيه عفوياً على مسامع أول من يلتقيه، بشرط أن يكون قد شرب معه نبيذاً ذات مرة، فالنبيذ عنده علامة اللقاء على طريق الصفاء والتواصل الإنساني. تتدافع لديه الإيحاءات الشعرية في الشارع، والمقهى، والمنزل، وأجملها ما يكون في السرير عندما ينام مع فتاة يظن أنه يحبها بعد أن يكون قد شرب حتى الثمالة، وكثيراً ما يظن! أما أعمق الأشعار فتأتيه عندما يشرب من “المشروب السحري” في قريته البعيدة برؤوس الجبال، هكذا يقول لي، هناك تنفتح شهيته لاختراق حدود المكان والزمان، فيُنزل الآلهة من السماء، ويرفع مكانها آخر فتاة يعشقها، ويجعل المطر يهطل صيفاً، والشمس تنير السماء ليلاً.

وفتيات صديقي العشيقات أصبحن كثراً، يأتين ويذهبن كأسراب الطيور، فعندما تتجاوز إحداهن الحدود وتُلمح للاقتران به يتململ، ويقلع عن التغزل بها، والإقلاع عن البوح بالغزل شعراً معناه عند صديقي الضجر، ثم الهروب من الوقوع في الفخ. لميس هي الفتاة الوحيدة الذكية التي فهمت اللعبة، جعلته يتعلق بها دون أن يشعر بالضجر أو الملل، ومنذ مدة طويلة يتغزل بها في السرير وخارجه، بل بدأ يفكر بتسجيل أشعاره فيها، ولكن بالرغم من ذلك فمن غير المعروف متى سيضجر منها، وهي ما تحاول تأجيله.

“ربما سينهار في النهاية، ويقع”، أسرت لي ذات مرة هامسة.

يبدأ جنون صديقي مساءً، شعراً ومشروباً ومجوناً، أما في أثناء النهار فيحاول أن يكون عملياً جداً من أجل استمرار نجاح دار نشره. يقمع رغباته ونزواته وتقلباته، يكتفي بالشاي والقهوة، ويتوقف عن إلقاء الشعر، وتتحول فتاته الأخيرة من عشيقة إلى موظفة منضبطة في داره، ريثما يأتي المساء فقط. يحاول في زحمة العمل أن يكون دمثاً مع مجموعة واسعة من المثقفين يترددون إلى دار نشره، بما يشبه التسكع، كما يحدث في مكتبي بالمركز، روائيون وشعراء ومفكرون ومترجمون وصحفيون، من المبدعين وأشباه المبدعين الراغبين بالتسلق عن طريق الكتابة، وإلى جانبهم سياسيون قدامى فقدوا أمجاد قيادتهم “للمسيرات الثورية” المُجهضة. صديقي نفسه كان ينوس قديماً بين انفلات الجنون الفردي والهوس الشعري من جهة وبين متطلبات النضال الثوري ومحاولة تأطيره واجهة ثقافية لحزبه من جهة أخرى. وحسم أمره أخيراً، وقرر أن يناضل وحده على طريقته الخاصة، وأن يهيم كالريح وحده، فأسس دار نشر ناجحة، يعمل فيها صباحاً حيث يشرب الشاي والقهوة فقط، ومساءً ينظم الشعر، ويعشق النساء، ويشرب نبيذاً. ومن وقت لآخر يزور بلدته الواقعة في رؤوس الجبال، ليتناول هناك المشروب السحري الذي يجعله يحلق عالياً ويتصل بالسماء.

“تكتسب الحياة معناها وتجددها عندما تدور حول ثالوث مقدس، الشعر والعشق والنبيذ، وعندما تنتعش أنت بالأمل تستطيع أن تمنحه لمن حولك” قال لي ذات مرة.

أسأله “ومشروبك السحري في القرية؟”.

يجيبني، وقد ظهر السرور على أسارير وجهه وارتسمت ابتسامة واسعة على فمه، “إنه ذروة الانتشاء، هل تعرف نشوة الوحي الشعري، ونشوة الاتصال بجسد تعشقه، ونشوة الانفصال عن الوعي بالنبيذ، شرابنا السحري في القرية بأعالي الجبال يحقق هذه النشوات الثلاث معاً، وهو ما يجعلك تحلق عالياً في السماء”، ثم يكمل بعد لحظة صمت وتأمل “يجب أن تتذوقه كي لا أبقى أشرح لك طويلاً”.

“أحضر لي معك زجاجة في المرة القادمة عندما تزور القرية، وسنشربه معاً هنا في المدينة، هل أنت موافق؟”.

يضحك صديقي بقهقهة عالية “عندما يخرج هذا المشروب من القرية يفقد قيمته هنا في الغرف المختنقة، يصبح ماء. يكتسب قوته السحرية من وجوده في أعالي الجبال، ومن الأجواء الماورائية المحيطة بها، وأخبرك أننا لا نشربه من زجاجة، بل بقدور صغيرة من الفخار، نغترفها من جرن حجري يعود إلى عصور قديمة، العجائز يقولون إنه مقدس، يسكب قواه على شاربه، ولذلك سنذهب معاً إلى القرية في المرة القادمة لتعيش معي التجربة”.

صديقي صاحب مشروع ثقافي ارتبط اسمه بدار نشره، لم يجرؤ أحد على تبنيه من قبله خوفاً من نزوات وتقلبات السلطة، وبالأخص خوفاً من المتعصبين الخضر والمتعصبين السود، فهو يعمل على جمع ونشر تراث المجموعات العديدة في المنطقة، والمختلفة فيما بينها بعوالمها الماورائية، ويهتم بشكل خاص بالمحظور منه. وإذا ما عرف بكتاب عن هذا الموضوع لرحالة غربي زار المنطقة قديماً أو حديثاً بأي لغة كانت سارع إلى إيجاد مترجم له لينشره، وإذا ما تجرأ باحث معاصر على تأليف كتاب في أحد التشعبات العديدة للموضوع نفسه، وأعجبه، نشره حتى ولو اضطر إلى تجاوز قيود الرقابة، ويسجل عليه عندئذٍ: طبع في “ما وراء البحار”، ليتقي تساؤلات وتحقيقات عناصر أجهزة “حفظ الاستقرار”.

وعناصر الأجهزة أخذت تزوره بشكل يومي في مكتبه، مُدعين صداقتهم له، بالرغم من تبرم وجهه المستمر وتأففه أمامهم من كل الزيارات التي تعطل أعماله. ولكنهم أصدقاءه، هم يحبونه حتى ولو لم يحبهم، وقد ازدادت شدة المحبة له عندما شعروا أن مكتبه الواقع في قبو إحدى البنايات بمركز المدينة يمنحهم مادة دسمة لكتابة تقاريرهم الوهمية عمن يزوره من المناضلين والمعارضين القدامى. صديقي يسخر منهم بشكل دائم ـ أي من هؤلاء المناضلين والمعارضين ـ ويردد “لازالوا يعيشون في أوهام مواقعهم القيادية القديمة وقد أصبحوا عجائز، فقدوا أسنانهم وتقوست ركبهم وانحنت ظهورهم، ولا يحلمون الآن إلا بعلبة حبوب فياغرا ومراهقة، علها تنسيهم إخفاقات وتبعثر مسيراتهم الثورية، سيموتون ولن يتركوا وراءهم جيلاً شاباً بديلاً، شاخوا هم وأفكارهم، ثم يأتي الموت والاندثار”.

ذات مرة في بداية علاقتي بصديقي زرته في مكتبه للتحضير لنشر كتابي الأول، شاهدت مجموعة من العجائز تتكئ على أكتاف بعضها بعضاً، وتصعد الدرج من القبو بتثاقل، تذكرت صورهم القديمة عندما كنت صغيراً، هؤلاء هم المناضلون القدامى. سألت صديقي “ماذا حل بهؤلاء المناضلين القدامى، ولماذا يأتون إليك؟”.

يجيب “هذا حديث يحتاج إلى جلسة هادئة، لنشرب شاياً ونتحدث قليلاً”.

“لا أرغب بشايك الأسود هنا، وخاصة أنه دون ليمون ونعناع”.

“ولكن اجلس واسمع، بعضهم أصبح يذهب إلى المسجد علّه يجد مكاناً يحجزه في أحد العوالم الماورائية، ومن لم يجرؤ على الركوع أمام رجل دين بلحية طويلة والاعتراف أمامه بذنوبه الثورية القديمة يذهب إلى المقهى، يلوك أحلامه القديمة بانتظار موته البطيء وهو يبدد أيامه كالدخان، رجالٌ وحيدون مهجورون….. وعندما تنتاب أحدهم رغبة تذكر أمجاده الوطنية الوهمية، وخطبه الحماسية القديمة، وإلصاقه المنشورات على الجدران ليلاً، يخط بضعة صفحات عن تاريخ نضاله، ثم يأتي إلى هنا”.

“وأنت تستقبلهم” أقول مستغرباً.

“وماذا أفعل، استقبلهم، ولكنني لا أنشر لهم شيئاً، فأنا ليس لدي مأوى عجزة للأحلام الثورية المنسية”.

أتساءل في سري وكأنني أتحدث مع نفسي، متذكراً فشلي مع شيماء وخيبتي في البحث عن عيون عسلية حتى الآن “يبدو أن كل شيء ينهار حولنا، أصبحنا نعيش مأساة، حيث لا أمل يتعلق به الإنسان، فهذه الأحلام الثورية القديمة أصبحت حكاية متخلفة ننوء بثقلها، وحلم عشق صغير لعيون عسلية لا أستطيع أن أجده في هذا الواقع”.

يوقظني صديقي من شرودي، وقد فهم خيبتي من امتعاض وجهي، ويجيبني بلهجة العارف بأمور مجتمعنا وبصنعة مشروعه الثقافي “لا يا صديقي، لقد صنعنا آمالاً جديدة، عدنا إلى تراثنا ونبشنا فيه، وأنعشنا منه عوالمنا الماورائية القديمة، استدعيناها ونحن نعيشها ونجترها كل يوم”.

“ولكنها أوهام، هروب من الواقع، لا تعني شيئاً ملموساً” أقولها بثقة.

“هكذا نظن أنا وأنت تحت غطاء عقلانيتنا، لكن العوالم الماورائية أصبحت جزءاً من حياة الناس اليومية، يندمجون فيها، ولا يتخلون عنها لأنها تعطيهم آمالاً بما سيحدث بعد الموت، علها تعوض لهم قهر وبؤس الحياة”.

وبما أنه لم يكن هناك أحد في المكتب قررت أن استغل الفرصة، فاقتربت من صديقي وسألته هامساً “وما قصة عناصر جهاز الاستقرار يركضون وراء هؤلاء المناضلين العجائز، ولا يدعونهم يستكينون في أحلامهم الماورائية الجديدة”، قلت هذا وأنا أعرف أن رجال “أبو أحمد” العملاق يأتون إلى هنا دائماً.

يتأفف صديقي وقد اتخذ وجهه انطباعاً جدياً “يظنون أنهم سيقودونهم إلى أوكار المتشددين الخضر والمتشددين السود، الذين يدعون للاقتصاص بأيديهم من شاتم الدين وتاركه! هؤلاء عجائز لا يستطيعون العودة إلى منازلهم مع أعمارهم المتقدمة وأمراضهم المزمنة إذا ما خاطروا وابتعدوا عنها قليلاً”.

“ويتركون رجال الأعمال الجدد الذين يسرقون الهواء والماء والذكريات والأحلام، ليكدسوها أوراقاً خضراً في بنوك الغرب” استمر هامساً.

يقترب صديقي مني أكثر “لا يوجد مثل هؤلاء الرجال، من يدير البلد هو…..”.

ينقطع الحديث فجأة مع دخول أشخاص إلى المكتب، انسحب بهدوء، إلا أن صديقي لا ينسى أن يُلمح “لا تنسى موعدنا مساءً، هناك قصائد جديدة ونبيذ معتق، وستكون معنا لميس”.

خرجت يومها من مكتب صديقي وركبت سيارة أجرة للعودة إلى البيت، كان المطر يهطل بغزارة والزحام على أشده، أخذت السيارة تزحف كالسلحفاة مع أرتال السيارات الأخرى في شوارع ضيقة مختنقة، فيما راحت مسَّاحاتها تزيح حبات المطر المتساقطة على زجاجها الأمامي بصعوبة، فيتناوب بانتظام صوت قرع حبات المطر على الزجاج مع صوت انزلاق المسَّاحات. بقيت أتأمل المطر دون أية رغبة بالحديث مع السائق الذي لم يكن يبدو لي ودوداً على كل الأحوال، وأخذت أفكر بالمناضلين القدامى وعوالمهم الماورائية الجديدة.

في مثل هذه الأجواء العاصفة والماطرة تتداعى الذكريات بانسياب، أخذتني إلى بلدتي أيام السبعينيات، حيث كانت أحزاب المناضلين القدامى تتسابق إلى “اختطاف” أكبر عدد من الشبان ما دون العشرين إلى صفوفها، في حركة محمومة لاستيعابهم وتأهيلهم وفق معتقداتها. شبان صغار يدخلون معترك الحياة لأول مرة دون أية خبرة، في حين لم يكن مهماً التدقيق في مؤهلاتهم ومعرفة مدى استعدادهم للانتظام في هذا التوجه أو ذاك، فقد كان صراعاً مكشوفاً حول تجميع أكبر عدد من المناصرين بغض النظر عن طرق تفكيرهم. بعثيون ناهضون، يمتلكون السلطة والقوة ورغبة التغيير آنذاك، شيوعيون بمشاريع راديكالية، استطاعوا أن يخترقوا بها صفوف العائلات التقليدية الإسلامية، ناصريون يحاولون استرجاع وهج الأمجاد القديمة عندما كانت عائلات بأكملها تُحسب على تياراتهم الشعبية، قوميون سوريون منعزلون بتنظيمهم الحديدي في إطار عائلتين أو ثلاثة، أما الإسلاميون فلم يكونوا قد برزوا بعد بقوة، إذ إنهم سينتظرون تعثر المشاريع الثورية لهذه الأحزاب ليصعدوا على أنقاضها.

أيمن صديق الطفولة والفتوة، يكبرني بعدة أعوام، ولكن صداقتنا نمت في النزهات المسائية مع شلة من الأصدقاء، حيث كنا نشتري سندويش الفلافل الساخن، نأكلها ونحن نتمشى في شارع العشاق، الذي يخترق البلدة طولياً، من مدخلها وحتى نهايتها عند التلال الجرداء. في تلك الأيام كنا نتمشى ونصرخ عالياً ونضحك باستمرار، نعاكس الفتيات في بلدة كانت متحررة من التحريمات الكهنوتية القادمة من الصحراء. وفي تلك الأيام كانت تمطر، لكن مطراً ربيعياً ناعماً يستثير العشق في القلوب ويوحي بالأمل، ليس كما في هذه الأيام مطراً غزيراً في الشتاء وفي الصيف، مطراً منذراً بالتوجس والقلق أكثر مما يشعل الحنين.

أيمن من عائلة فلاحية تقليدية ذات شأن عندما كان جده مختاراً للبلدة وأحد القلائل القادرين على القراءة والكتابة، إلا أنها انحدرت إلى الفقر والبؤس بعد أن فقدت هذا المنصب بموت الجد. وكان نصيب أيمن ـ أو ربما من سوء نصيبه ـ أن وقعت قرعته مع الشيوعيين، في حين نجوت أنا من التجاذبات السياسية بعد أن فهمت خطأً في وقتها عدمية ألبير كامو عندما قرأت روايته “الغريب”، التي جعلتني وقتها أندمج مع الضياع أكثر من رغبة الالتزام. كان صديقي أيمن شاباً نحيلاً ذا بنية ضعيفة هشة، تلاحقه الأمراض بشكل دائم، لكن وسامة وجهه وتصرفاته الأنيقة الموروثة من جده جعلته محبوباً. أما في داخله فقد كان دائم التوتر والقلق والضياع، ليس فقط بسبب بنيته وأمراضه المزمنة، بل وأيضاً لوفاة والده مبكراً بالسرطان، ومن ثم وفاة والدته حزناً على زوجها مباشرة بعده، مما ترك لديه شعوراً دائماًً بالوحدة دون وجود ملجأ أمان. ولكل هذا لم يكن أيمن مؤهلاً لأي نشاط حزبي سياسي، فلا رغبة لديه بإقناع الآخرين بخطه السياسي، ولا قدرة لديه على إلصاق المنشورات على الجدران تحت جنح الظلام، ناهيك عن العراك مع عناصر الأحزاب المنافسة في المظاهرات والمناسبات الوطنية وغير الوطنية، وانهياره أمام أول استدعاء أمني، كل ما هنالك أن بعضاً من قلقه وتوتره كان يختفي لإحساسه بالانتماء إلى جماعة ما.

واستطاع أيمن بعد فترة قصيرة من الانتماء إلى الحزب الحصول على بعثة إلى إحدى بلدان الثلوج، في إطار سياساتها لدعم ما يسمى “النضال الوطني في الدول النامية” آنذاك، وبما أنه ينتمي إلى تنظيم سري فقد تم تهريبه من أجل السفر للدراسة عن طريق إحدى البلدان المجاورة مع مجموعة من الرفاق. ومع شعوره بالأمان والاسترخاء في البلد الجديد بعيداً عن الملاحقات الأمنية نسي الحزب مباشرة، ونسي الطبقة العاملة ونضالاتها، وانمحت من ذاكرته الملاحقات الأمنية، وهو في الأصل كان بعيداً عن عقائد الحزب، لم يكن ليستطع استيعاب المادية التاريخية أو المادية الديالكتيكية، لا باللغة العربية ولا الأجنبية. وبدلاً من ذلك عاش هناك حياته يناضل مع طالبات عابرات في السرير حتى نهاية دراسته، ومن ثم استمر بالإقامة هناك حتى شعوره بالحنين إلى البلد، وذلك دون أن يتحدث أو يهتم بالسياسة طوال تلك الإقامة. لكن السجلات الأمنية في البلد حفظت ملفه تحت عبارة “شيوعي مزمن”، إذ إنه ما أن رجع بشهادة دكتوراه عن نضالات الطبقة العاملة في البلدان النامية، غير صالحة لأي عمل، حتى تلقفته الأجهزة الأمنية تحت خانة “ممنوع من العمل في أي من مؤسسات الدولة بسبب خطورته الشديدة”، مما جعل توتره وقلقه القديم يعود إلى الواجهة. ولحسن حظه وجد فتاة صغيرة بسيطة من البلدة، رأت فيه صورة والدها المتوفى، واقتنعت ببقايا الوسامة لديه، وذهلت بصورة الشهادة العليا المعلقة في غرفته دون أن تعرف موضوعها، وتزوجته، لتكتشف بسرعة أن قلقه وتوتره “الوطني”، الذي عاوده بشدة بعد الرجوع إلى الوطن، قد انتقل إلى حياتهما الزوجية، مع رزمة محترمة من الأزمات المالية العميقة والمستمرة.

المرة الأخيرة التي شاهدت فيها أيمن بعد عودته من السفر كانت في يوم عاصف شديدة البرودة، وصادف التقائي به نهار الجمعة ظهراً في أثناء مروري أمام مسجد المدينة الرئيسي لحظة خروج المصلين منه. وبالرغم من السرعة التي كنت أسير بها هرباً من المطر الشديد، إلا أنني لمحت أيمن فجأة وبدهشة كبيرة بين جموع المصلين الخارجين من المسجد، وسرعان ما التقت نظراتي بنظرات صديقي المناضل القديم، الذي ارتبك بشكل واضح، ولم يجد مجالاً للهروب مني فاضطر لتحيتي. وكان من الطبيعي أن يعانقني بالمحبة والود القديم، حيث توقفنا قليلاً تحت مظلة إحدى المحلات التجارية القريبة.

وسألته مباشرة وبكل المحبة والود أيضاً “أيمن، ماذا كنت تفعل في الداخل؟”.

فأجابني متلعثماً “كنت في الداخل مع الناس”.

“هل أصبحت مؤمناً تمارس الطقوس الدينية”.

لا يزال متلعثماً وكمن يرغب الهروب من الإجابة “لا، ولكن بما أنني كنت مع المجموع فقد كان علي أن أفعل ما يفعلونه”.

وكان عليَّ أن أتابع الموضوع رغم شعوري بحصاره وإيلامه، فسألته من جديد “ولكن لماذا حضرت إلى المسجد، ما دمت لا ترغب في داخلك بممارسة الطقوس الدينية باقتناع؟”.

تنهد أيمن بعمق وكأنه قد قرر أن يفضي بأسراره إلى صديقه القديم “هربت من البيت الضيق وصراخ الأطفال، هربت من زعيق الزوجة المستمر التي تندب حظها باستمرار بزواجها من خائب فاشل، هربت من طلبات الشراء التي لا تنتهي لديها، وذهبت إلى الشارع لأدخن السيجارة التي تمنعني عنها زوجتي بعد أزمتي القلبية التي كادت أن تودي بحياتي، تصور أنها تخاف من موتي ليس خوفاً عليَّ وإنما خوفاً على من يطعم الأولاد من بعدي”، ثم صمت قليلاً وكأنه غارق في حزنه.

“ثم ماذا ؟” سألته لأستثيره في متابعة الحديث.

“ثم ماذا! هربت اليوم أيضاً كالعادة، ووجدت نفسي في الشارع، شعرت بالحر الشديد، أصبحت أمام المسجد، أتت نسمة برودة منعشة من بوابته، فدخلت”.

“ولكن اليوم بارد والسماء تمطر، ولا يوجد حر شديد يدفعك إلى الدخول؟!”.

“أقصد شعرت بالبرد الشديد، وأتت موجة دفء من داخله، فدخلت، وكان عليَّ أن أعمل مثل ما يعمل كل الناس”.

“ولكن يا أيمن إذا لم تكن مقتنعاً بذلك، فلماذا لا تذهب بدلاً من ذلك إلى كافتيريا مبردة، عفواً أقصد مدفئة، وتجلس هناك، وتدخن مع فنجان شاي ساخن، وكدت أقول بشرائح الليمون وأوراق النعناع الأخضر.

يبتسم أيمن بحزن “هناك يجب أن تدفع نقوداً، وأنت تعرف الأزمة المالية، ثم هناك أيضاً الوحدة، تجلس وحيداً وتجتر أحزانك، هنا دفء وجماعة ولا تدفع نقوداً لأحد، هنا مجاناً…..”.

تمتمت هامساً “بل وقد يدفعون لك نقوداً، حسنة لوجه من في السماء”.

“….. ثم إنني أدخن بمجرد خروجي من المسجد”.

“أتفهمك، ولكن في مقالتك الأخيرة عن كتابي مدحت التوجهات العقلانية فيه التي أصبحنا نفتقدها في حياة مجتمعنا؟!”.

صمت أيمن، وكان على الحديث أن ينتهي هنا، عانقت أيمن من جديد مودعاً، على أمل اللقاء في إحدى الكافيتريات الدافئة، لأدعوه إلى فنجان شاي بشرائح الليمون وأوراق الشاي الأخضر على حسابي. شعرت بالحزن على المناضلين القدامى، وأيمن محسوب عليهم، حامل شهادة دكتوراه في نضالات الطبقة العاملة، تم منحه إياها دون أن يعرف ماذا سيعمل بها في بلده. أيمن ذهب إلى المسجد، ونظر إلى الأعلى فوجد عالماً ماورائياً مفتوحاً، لا بيتاً ضيقاً فيه، هناك لا صراخ أطفال، ولا زوجة تزعق باستمرار وتندب حظها معه، وطلبات شراء لا تنتهي، هناك لا أزمات قلبية، ولا أحد يمنعه من تدخين السجائر، والأهم من هذا أن كل شيء هناك مجاناً، كافيتريات مبردة أو مدفئة حسب الطلب. وإضافة إلى ذلك فقد يجد والده ووالدته، اللذين تركاه في لحظة حاسمة من حياته، ليموتا فجأة دون أن يقولا له لماذا رحلا، وتركاه وحيداً. وسيجد هناك أيضاً بالتأكيد جماعة لن تفرض عليه المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية، جماعة تضمن حمايته بعيداً عن الملفات الأمنية، التي لازالت تسجله “شيوعي مزمن” لهفوة تم ارتكابها منذ أكثر من عشرين عاماً، هفوة لم تستمر أكثر من عام ونصف. ولكن الذاكرة الأمنية أذكى من أن تنسى، فقد يكون عميلاً متلبساً بزي حمل يخدع الناس حوله، ولا يزال يدفع الشباب إلى إلصاق المنشورات الوهمية ليلاً، التي أصبحت تضيء بمصابيح ملونة على طريقة الإعلانات الأمريكية.

ومنذ ذلك اليوم بعد لقائي أيمن أمام المسجد ازداد تلبد الغيوم الكثيفة السوداء في السماء، ببرق ورعد وبرد شديد وهطول مدرار في ذلك الصيف، برق ورعد أصبحا يتناغمان مع كل صوت يصدر من حركة شيء ما بإيقاع منتظم، مثل صوت مسَّاحات زجاج السيارة، وصوت السائق يوقظني “أستاذ، يبدو أنك غفوت، لقد وصلت”.

بعد عدة أيام من حديثي مع صديقي عن المناضلين القدامى، اتصل بي في مكتبي يدعوني للاطلاع على أعمال جديدة يرغب بنشرها، نظرت عبر الجدار الزجاجي، كان المطر قد توقف منذ فترة، لكن السماء مازالت ملبدة بالغيوم، ولأنه لم يكن لديَّ ما أعمله قررت أن أتمشى إلى مكتبه في وسط المدينة. في الطريق ولسوء الحظ عادت تمطر من جديد، مما اضطرني إلى الركض في الشارع، وعندما أشتد المطر أخذت سيارة أجرة. توجس قلبي من شيء ما، وكأن المطر ينذرني، ينذرني هذه المرة بشيء ما غير مريح، ولكنني تجاهلت الأمر، فلقد بدأت الاعتياد على المفاجآت غير المريحة، والتي غالباً ما تؤدي إلى نتائج سيئة. وصلت مكتب صديقي ونزلت الدرج إلى القبو، وأثناء نزولي سمعت صوتاً أجشاً أعرفه دون أن أتذكر أين التقيت بصاحبه.

“جئنا نشرب عندك شاياً، رفيقنا”.

وبمجرد النطق بهذه العبارة تذكرت مباشرة صوت “أبو رعد” الذي زارني الأسبوع الماضي في مكتبي بالمركز، ولكن هذه المرة يبدو أنه يستعمل كلمة رفيق للدلالة على ائتلاف وطني دخل به حزب صديقي مع السلطة منذ زمن.

صديقي يجيب دائماً بشجاعة “للأسف ليس لدي اليوم شاياً أو قهوة، نفذت المؤونة فجأة، ونسيت أن أشتري كمية جديدة منها”.

توقفت في العتمة عند باب المكتب الخارجي في محاولة للتراجع والانسحاب بهدوء قبل أن يلمحني أحد، فلم أكن أتوقع وجود “أبو رعد” هنا، كما أن زيارته لصديقي بالتأكيد هي مفاجئة، وإلا لما حدد معي موعداً الآن. رميت نظرة خاطفة قبل أن انسحب ويكتشف أحد وجودي، فرأيت “أبو رعد” جالساً على أريكة جانبية على طريقة “أبو أحمد” العملاق، متمدداً ومسترخياً بسلطة واضحة كمن يسيطر على المكان، وإلى جانبه مرافقه الصغير النحيل الجالس على طرف أريكة أخرى على طريقة مدير المركز. فكرت أنه ما دام “أبو رعد” يجلس بهذه الطريقة ويطلب شاياً على عكس طريقته السريعة في التعامل معي في المركز، فهذا معناه أن القضية التي حضر من أجلها هنا هي أهم بكثير من الحفلة الموسيقية في مركزي، ويبدو أنه لن يحتاج الآن إلى معلومات عملية، إذ إن طريقة جلوسه توحي بأن لديه المعلومات، والمهمة المكلف بها تبدأ وتنتهي هنا، لذلك قررت التريث قليلاً في العتمة لأستمع إلى بقية الحديث.

سمعت “أبو رعد” يسأل “رفيقنا، عرفت من جهاز الرقابة أنه ستصدر لديك ثلاثة كتب لرفاقٍ من حزبك القديم الذي تقول إنك انسحبت منه، يبدو أن العلاقات الجيدة لا زالت مستمرة معهم حتى إنهم يلجؤون إليك لنشر كتبهم، وقد طُلب مني متابعة الموضوع حتى تحصل على الموافقة الرسمية لنشرها، طبعاً إذا لم يكن هناك من خطورة من وراء ذلك”.

وقبل أن يسأل صديقي أي سؤال التفت “أبو رعد” إلى مرافقه النحيل، الذي أخرج بسرعة ورقة مسودة مكتوبة على عجل بخط اليد وقدمها له، فأخذها واستمر بالحديث وهو ينظر إليها “المؤلفون الثلاثة هم ابن عربي، والجلاح، والسهران ورد”. وتهجى الاسم الأخير بصعوبة، وأردف بسرعة “أحد أئمة الجوامع من أصدقائنا ومخبرينا الذين نعتمد عليهم، وهو ثقة لأنه يتحضر لمنصب روحي رفيع، قال في تقريره لنا إن الأول ابن عربي بالرغم من ماركسيته فهو من النهج الذي انشق عن الخط السوفيتي القديم واقترب من القوميين في توجهاته، وبالتالي فهو بالنتيجة عربي أصيل لا خوف منه، أما الثاني…..” وأعاد النظر إلى الورقة “الجلاح…..”.

فتدخل صديقي وصحح الاسم “الحلاج”، فتابع “أبو رعد”: “الجلاح، الحلاج، لا يهم، لكنه هو الخطير، يدعو إلى التمرد على السلطة ومقاومتها بالعنف الجماهيري المسلح، ولا أدري كيف تتعاون معه! أما الثالث…..”، وأعاد النظر إلى الورقة من جديد “السهران ورد…..”.

وتدخل صديقي من جديد “السهروردي”.

فأجابه “لا يهم فهذا الاسم معقد، وهو خطير أيضاً، ولكن وضعه حساس جداً، فهو يُكفر الفقهاء الأجلاء بشدة، ولكن لا يمكننا اتخاذ إجراءات مباشرة ضده بسبب حساسية وضعه لدينا، فهو وإن كان يقيم في بلدنا إلا أنه ينتمي إلى دولة إسلامية تقف معنا في خط المواجهة الأول للدفاع عن شرفنا وعزتنا وكرامتنا الوطنية، في وقت انفضت به بعض قوى العربان عن دعمنا، وانضمت إلى الهجمة الشرسة التي يتعرض لها وطننا العظيم من قوى غاشمة معادية”.

عندما سمعت هذه العبارات من “أبو رعد” تداعت إلى ذاكرتي كلمات مدير المركز عن الوطن أمام “أبو أحمد” العملاق، وأدركت عندئذٍ أنه قد تخرج هو والرفيق “أبو رعد” من نفس دورة الإعداد الوطني، وعلى الأغلب كانا من المتفوقين لأهمية المراكز التي استلموها، “أبو رعد” ذهب إلى “جهاز الاستقرار الوطني”، ربما لضخامة جسده، وتكشيرة وجهه المخيفة، وصوته الأجش، وثقافته المميزة في الحياة العملية التي انعكست على حسه الأمني، أما المدير فقد استبعدوه عن الجهاز على الأغلب لضآلة جسده، ولكنهم أعطوه إدارة أهم مركز ثقافي في العاصمة بسبب ولاءه الشديد ومؤهلاته الخطابية الوطنية، المناسبة للاحتفالات الوطنية.

يتابع “أبو رعد”: “نريد يا رفيقنا أن تتعاون معنا، وأن تعطينا عناوين سكنهم الأخيرة التي لا نستطيع إيجادها في السجلات الرسمية، وهذا ما يزيد شكنا فيهم وبخطورتهم بسبب تنقلاتهم المستمرة، وتغيير أماكن إقامتهم بشكل دائم”.

يلمحني صديقي في عتمة الباب لكنه يصمت، في حين كان “أبو رعد” يتابع “وما داموا ينشرون عندك فعلاقتك طيبة معهم، هل مازالوا من المناضلين، أم تخلوا مثلك عن حزبك الذي تقول أنه أصبح عتيقاً؟ أو ربما تعرفت على……”،

وينظر إلى الورقة من جديد بيد مساعده، فيصيح به مؤنباً “صححها يا ابني، ليس الجلاح، وإنما الشلاح، كما قال رفيقنا”. ويستمر بالحديث “أو ربما تعرفت على ابن عربي والشلاح في أثناء تأدية الخدمة العسكرية، فمن الطبيعي أن لا يؤديها الثالث مادام من أصول إسلامية غير عربية من بلاد الجبال البعيدة، على الأقل أعطنا عناوين سكنهم”.

وفي اللحظة التي قررت فيها الذهاب بعد أن تعرفت على الموضوع، أراد صديقي أن يتخلص من ورطته برميها عليَّ “ها هو صديقنا قد حضر، تفضل ادخل، هو مسؤول إداري في أحد المراكز الثقافية في العاصمة، ويعرف الكثير من التفاصيل العملية عن أمثال هؤلاء المفكرين، لأنه يتصل بهم لضرورة العمل، وعلى الأغلب فهو يعرف أين يقيمون الآن”. قال ذلك بلهجة شبه ساخرة.

فوجئ “أبو رعد” بوجودي على الباب، فاضطررت إلى الدخول، وعندما تعرف عليَّ نظر إليَّ نظرة شذر واستهزاء مع احتقار واضح، وخاطب صديقي وهو يشير بأصبعه نحوي “هذا الرفيق ليس أهلاً للثقة، أخبرنا الأسبوع الماضي بقدوم…..”، ونظر إلى مساعده الذي أخذ يبحث بين أوراقه في قعر حقيبته الجلدية المهترئة دون أن يجد الورقة المنشودة، فتدخلت وقلت “شوبان وموزارت وتشايكوفسكي”.

وأكمل “أبو رعد” “أخبرنا عن قدومهم إلى الأمسية، وصل أعضاء السفارة كلهم، ولكن هؤلاء الثلاثة لم يحضروا”.

لم يستغرب صديقي كثيراً، فقد حدثته عن الحكاية سابقاً، ولذلك تابع “أبو رعد”: “أغلقوا أبواب الصالة، ونحن لازلنا ننتظرهم، ولا أدري لماذا صفق الحضور فجأة، فقد صعد إلى المنصة شاب أشقر مخنث، يتمايل مثل فتيات الليل، شككت بأمره منذ البداية، وخاصة مما كان يضع على رقبته…..”، والتفت إلى مساعده “ماذا كشفت التقارير اسمها؟”، بحث المساعد من جديد في أوراقه، وبصعوبة وجدها “بابيونة يا سيدي”.

واستمر “أبو رعد”: “شككت فيها منذ البداية، فجميع من في القاعة لا يلبس مثلها، فهم يضعون إما ربطة عنق عادية أو بدونها، أما هذه البايلونة، فقد عرفت مباشرة أنها تحوي جهازاً لاقطاً، وخاصة أنه كان يلبس معطفاً بذَنَب على شكل مثلث لم أرَ مثله في حياتي، والذنب كان موجوداً لكي يبعد الانتباه عن هذه البايلونة…..”.

ونظر “أبو رعد” بفخر ليرى ردة فعلنا على اكتشافاته الأمنية الذكية.

ثم تابع قائلاً “وبدلاً من أن يلقي محاضرة علينا مكان هؤلاء الثلاثة ويتحدث معنا فإنه ذهب إلى طرف المنصة، وجلس قرب صندوق أسود كبير مرمي هناك…..”، أجاب المساعد بسرعة مبتسماً دون أن ينظر إلى الأوراق هذه المرة “بيانو، بيانو سيدي”. وتابع “….. وجلس إلى البانيو، وأخذ ينتظرهم معنا، وحتى لا يشعر بالملل وهو ينتظرهم فقد أخذ يقرع عليه بشكل مزعج، بحيث وضعت قطعتي محارم ورقية في أذني. وعندما لم يحضر هؤلاء الثلاثة بعد طول انتظار، انفض الناس وعادوا إلى بيوتهم. أما أنا فقد أصابني صداع من هذا الشاب المجنون، فمظهره المخنث الغريب يؤكد أنه لوطي مفعول به، بحيث عشقه كل من في الصالة، وأخذوا يصفقون له عندما نهض، ويتسارعون للحديث معه في البهو، وأخيراً فقد كان من حصة السفير العجوز، فقد ركب معه بسيارته وذهبا معاً. دائماً أقول إن معظم هؤلاء الممثلين الرسميين لبلادهم هم شاذون جنسياً، وعلى كل الأحوال هو غير صالح للتعاون معنا وغير مؤهل لكتابة أي تقرير ثقافي عن بلاده”.

ووجه بعدئذٍ خطابه مباشرة إليَّ “لم تخبرنا أن الطائرة لن تقلع بهم إلى بلدنا، وأنهم ألغوا الحجز في اللحظات الأخيرة”.

يبدو أن “أبو رعد” خلط بين الحفلة الموسيقية في المركز وندوة تقام في مركز آخر فيها محاضرون أجانب، فأنا لا أذكر أنني قلت له سيحضرون، ولم أذكر أية طائرة، فقد أنهيت حديثي بأنهم ألفوا جمعيات وطنية في بلدهم للدفاع عن حقوقنا المغتصبة، وإذا ظن هو أنهم سيأتون من بلدهم البعيد بالطائرة لإلقاء محاضرة، فهذه مشكلته.

وأنهى “أبو رعد” حديثه معي “لولا أن التقارير لدينا تصفك بأنك متعاون جداً، لقلت إنك مشترك بمؤامرة أجنبية، وإن دورك محدد فيها بإلهاء الأجهزة المختصة بأعمال هامشية لحرفها عن المخاطر الحقيقية التي تهدد الوطن”.

انسحبت بهدوء، وقلت لصديقي أنني سأعود غداً، خرجت والعاصفة مستمرة بشدة، وقد تبادر إلى ذهني مباشرة أن هذه الأخبار السيئة عني ستصل إلى “أبو أحمد” العملاق مباشرة، وسأفقد الثقة التي منحني إياها بعد هفوة الفروج المشوي، ولن تكتفي التقارير بتهمة عدم التعاون للمرة الثانية، بل ستزينها عبارة “مسؤول إداري في مركز ثقافي مضمون الولاء، يتردد إلى وكر يتجمع فيه المناضلون القدامى”، فعليَّ أن أتهيأ إذن لفقدان منظر الحديقة عبر الزجاج الجداري منذ الآن.

تقلقني فكرة فقدان عملي المريح في المركز بالرغم من الضجر الذي أخذ ينتابني بشدة من الأعمال الإدارية المملة، إذ إن هذا معناه فقدان منظر الحديقة الجميلة أمام مكتبي، وخاصة عندما يغسلها المطر، فتكتسب خضرة رطبة، متألقة ومنعشة. كما إن منظر الحديقة عبر الزجاج يتناغم دائماً في داخلي مع المنظر الذي أشاهده من نافذة البيت، التي تنتصب أمامها شجرة سرو باسقة تطل على منازل قديمة، وإن كان صوت طرقات حبات المطر على نافذة منزلي له متعة خاصة عندما يتداخل مع هديل الحمام وزقزقة العصافير. صحيح أن عملي في المركز يعطيني بعض السلطة المعنوية في أوساط المثقفين، ولكن هذا لا يهمني، فما يعنيني في هذا العمل هو أنه يعطيني مجالاً للبحث عن عيون عسلية رجعت إلى البلد من أجلها. ومع أنني فشلت مع شيماء، فمجال اللقاء يبقى هنا مفتوحاً مع فنانة تشكيلية أخرى، أو شاعرة، أو حتى موسيقية، تهتم من خلال إبداعاتها بالعيون العسلية، وبشرط أن تمتلك هي بالأصل عيوناً عسلية. ولأجل كل هذا شعرت بالتوتر والقلق مما قد يقدم عليه “أبو رعد”، سيرفع تقريراً عني بالتأكيد إلى “أبو أحمد” العملاق بعدم التعاون، فقررت أن أعود إلى البيت، وسأعتذر من لقاء الليلة مع صديقي، فليس لدي مزاج كي أسمع شعراً وأشرب نبيذاً. وعلى كل الأحوال فالعاصفة أخذت تشتد بقدر ما يزداد التوتر في داخلي، وأجواء الرياح والمطر غير مناسبة للخروج من المنزل في هذه الليلة، ثم أنني سأجد ورد في البيت ما دام هناك مطر، وستخفف من قلقي في دفء الفراش.

أرجع إلى البيت وتدخل ورد في اللحظة التي أدخل فيها، تأتي كالعادة من النافذة مع المطر، نصنع شاياً مع شرائح الليمون وأوراق النعناع الأخضر، نتمدد في الفراش، أروي لها كل ما حدث في نهاري، وخاصة عند صديقي. أشعر بالراحة مع ورد لأنها تسمعني، أبوح بما أرغب به أمامها ولا أخفي شيئاً، أتحدث بصوت عالٍ، فأتخفف من التوتر الداخلي، ولكن المشكلة أن ورد تسمعني فقط، وتتقبل كل ما أقوله وأقرره وأفعله، لا تعترض ولا تناقش، بل تتجاوب معي في كل ما أرغبه، وإن كانت تتأفف بعض الشيء عندما أتركها وحيدة في الفراش وأجلس لأكتب في الليل.

أسألها “ورد، أنت مليئة بالمشاعر والأحاسيس الجياشة، تتعاملين معي بصدق، وتمنحينني نفسك بكل الحب والتفاني، ألا تخافين أن لا أعاملك بشكل لائق كفتاة جميلة، كسيدة محترمة، لا أدري كيف؟”.

تقول بثقة “لا تجرؤ، لأنني أنا أحلامك وما تختزن في داخلك من حنين”.

“ولكنك تخافين من شيء واحد”.

“ما هو؟”.

“تخافين من حضور فتاة مثل شيماء إلى البيت، وتظنين أنها ستحل مكانك”.

“قلت لك سابقاً ما إن تَحضر شيماء أو أي فتاة لها عيون عسلية إلى البيت فسأغادرك نهائياً، ولكن لست أنا التي أخاف من ذلك، أنت الذي تخاف من حضورها”، لازالت ورد تتحدث بثقة قوية بالنفس.

“أنا!”، أقولها بكل الاستغراب والدهشة.

“نعم، تخاف أن تفقدني، وتفقد عندئذٍ حنينك، وماضيك، وذاتك”.

“ولكن لماذا لا تخافين من سهام؟”.

“سهام ليست خطيرة بالنسبة لي، فهي ليس لديها عينان عسليتان، وليس لديها حنين، وتكره المطر، وأنت أصلاً لا تدعوها إلى هنا. وعلى كل الأحوال أرجوا أن نغير الموضوع، فأنت متوتر جداً بعد لقائك غير المريح في مكتب صديقك مع “أبو رعد”، وأرجو أن لا ينعكس هذا بشكل سيء على ليلتنا”.

“تتحدثين وكأنك تعرفينه؟”، أسألها بنبرة حادة.

أخذت ورد تتحدث الآن بدلال وغنج وكأنها ترغب في أن تثير أعصابي كمقدمة لإثارتي جسدياً “أعرفه، نعم، وأعرف معلمه” أبو أحمد “العملاق أيضاً”. تضحك وترتمي على مسند السرير، فتبرز حمالة صدر سوداء مغرية جديدة، وتمسك بيدي وتدفعها نحو ثديها.

أسحب يدي بقوة وقد ظهر الانزعاج على وجهي “ومن أين تعرفين معلمه، وأنا لم أحدثك عنه!”.

تستغرب لهجتي الغريبة عليها، فتصرخ “ألا تفهم أخيراً، أنا أعرف جميع الأشخاص الذين تعيش معهم، إنهم يعششون في تلافيف دماغك، وأنا بنت خيالك، أعرفهم جيداً كما تعرفهم أنت”.

وكأنني لم أسمعها فاستمر بالنبرة الحادة التي أخذت تعلو مع تكثف غيظ شديد في داخلي، يكاد أن يصل إلى حد الانفجار “والسيد لؤي أيضاً، أتعرفينه؟”.

“نعم، بنظرته وابتسامته الماكرة، وأعرف معلمه الأنيق والوسيم الذي أثارك بحدة ملاحظاته وسعة ثقافته، وجعلك تركض وراءه لتقديم معلومات عن الأمسية”.

وكأنها جرحتني في كرامتي، أصرخ محاولاً كتم الغيظ في داخلي والتماسك قليلاً “تعرفين كل هذا دون أن أحدثك به؟!”.

تصمت ورد حزينة، أفاجأها من جديد منفعلاً “أخبريني، وهل تتحدثين معهم؟”.

تصرخ الآن بغضب شديد “أنا لا أتحدث مع أحد سواك، أنت الذي تتحدث معهم وتتحدث عنهم، أظنك قد بدأت تقترب من حافة الجنون”.

تبتعد ورد عني وتدير ظهرها لي، اسمعها تنشج في بكاء بحرقة شديدة، أصمت، أتأمل ظهرها الناعم الجميل من تحت قميصها الوردي الشفاف، كما اكتشفته في أول ليلة تعرفت عليها. أكره هذه الدوامة التي أعيش فيها بقلق، “أبو رعد” والسيد لؤي، يلاحقونني حتى في المنامات ويحولونها إلى كوابيس. أعانقها بلطف، أحيطها بجسدي وألتف عليها معتصراً إياها في حضني، أعرف أنها تهدأ بهذا الوضع، تشعر بالحماية به وتدفع مؤخرتها نحوي أكثر كمقدمة لإثارتي جنسياً. اقترب بفمي من رقبتها تحت أذنها، أقبلها بكل الحب، وأنا أتنشق شذى رائحة جسدها المنعشة والمعششة تحت شعرها، تتسلل يدي إلى ثديها الناعم الغض تحت حمالة الصدر السوداء الجديدة، تداعبه بنعومة فتسترخي دون أن تتوقف عن النشيج، وإن خفت وتيرته.

أستغل فرصة هدوئها فأهمس بحذر شديد “ورد أنا أسف، فقط أخبريني أين تذهبين عندما نغادر المنزل، أنا متوتر جداً، يبدو أنهم يعرفون كل شيء عني وعنك، أريد فقط أن أعرف ما يحدث حولي دون أن أسبب لك ألماً، فأنا أثق بك أكثر مما أثق بنفسي، بل على العكس أصبحت أنا متردداً، لا أعرف ما أفعله، هل هو الصحيح أم الخطأ، هل ما أعيشه هو الخيال أم صدمة الواقع، ولذلك أنا ألجأ إليك”.

تلتفت إلي والدموع في عينيها “أنا أذهب إلى عالمي”.

“وهل عالمك حقيقي أم وهمي؟”.

تجيب من بين دموعها بصوت مختنق أدمى قلبي “كان وهماً عندما كان جزءاً من عوالمك الداخلية، ثم انفصل وتشكل واقعاً حقيقياً بعيداً عنك، ولذلك فأنا أتجسد وأستطيع الحضور إليك بشكل دائم وعندما ترغب”.

“أخبريني قليلاً عن عالمك؟”.

“تعرفه، فأنت صنعته عندما كان جزءاً من كيانك، ثم أخذ ينمو وحده ويتطور خارج سيطرتك”.

“وهل تحول إلى عالم ماورائي؟”.

“اتركني الآن، ليست لدي الرغبة بالحديث، جعلتني اليوم في حالة مزاجية سيئة، سنتحدث عن ذلك في يوم آخر”.

أتراجع عن أسئلتي القلقة، وأكفكف دموعها بقبلاتي “ورد، كيف أجعلكِ تكفين عن البكاء، كيف أجعلك سعيدة؟”.

تنقلب ورد فوقي، لا أعرف كيف نصبح عاريين دائماً بشكل مفاجئ، كل ما أعرف هو أنني شعرت برطوبة عالية لزجة بين فخذيها، فانزلقت فيها بيسر وشوق، التحمت بي بقوة بعد أن جلست فوقي بوضع تستطيع فرض أوامرها وشروطها ورغباتها عليَّ. كنت شبه مشلول تحتها، فقد قيدتني بيديها ورجليها، تحكمت بجسدي وأخذت تدير هي كل حركات الصعود والهبوط، والخروج والدخول، والانزلاقات والدورانات، متحكمة بأدق التفاصيل، تزيد سرعة الاهتزازات بوتيرة عالية عندما ترغب فيطير صوابي، ومن ثم تبطئها قليلاً لتشاهد أثار الانفعالات والمتعة على وجهي، لتعاود الانطلاق من جديد.

لم يكن فقط هذا الالتحام الجسدي هو ما يشلني، وإنما وبشكل أعمق كل السحر الذي يتناغم مع كل أنة ونفس يصدر عنها. فلا زال شَعر إلهام ينسدل كليل أسود عميق يفتح أسراره فجأة، يروح ويجيء مع كل اهتزاز متطايراً، ويقفز مع كل حركة ارتداد من الرأس، لترفع خصلاته عن عيني هند، اللتين تتألقان بوميض غامض قادم من مساءات التلال الجرداء. وميض يأتي ويذهب مع تطاير الخصلات الناعمة التي تعيش الحضور والغياب مع شعاعات الألق في عينيها. ألق يندغم مع ابتسامتها الساحرة، التي يتناوب عليها التغضن فالانبساط مع موسيقى أنات المتعة، التي أخذت وتيرتها تتصاعد من صدر سهير مع كل الحنين إلى شجر الرمان، والثديان يقتربان من وجهي عندما تنحني قليلاً، فتمسني حلمتاه بالصدى، تمسحان بطيفهما زغب الخدود ورموش العينين، ويرسمان حكايات عشق ومطر في القلب. تتصاعد موسيقى دافئة، ترافقها رقصات خصلات الشعر مع تراقص الثديين، وترتسم عليهما أخيلة الابتسامات القادمة من تلاعب ألق العيون بنداءات قادمة من أعماق الحنين والمبهم، والمرتسمة في تغضنات الشفاه. تتحرر يداي، تمسكان بخصر جورجيت الممتلئ عذوبة، تتجولان صعوداً حتى انحناءة الصدر مع العنق، ترجعان على أطرف الظهر وتصلان إلى ترجرجات المؤخرة مع الصعود الذي أصبح طيراناً، والهبوط الذي يأخذ معه ارتعاشات القلب. تصبح الرطوبة بين الفخذين ساقية تروي العشب حولها، وقد أخذ ينمو في التقاء هديل الحمام مع زقزقات العصافير. تجتاحني غمامة ضباب، أسمع صوت رولا تبكي، أخذ وجهها بين يدي، تتبعثر من النشوة، تهدأ وتبتسم. أشعر بالنشوة تتصاعد بطريقة مجنونة، تندمج أناتي مع التأوهات العالية لورد، لتشكل معاً صدى لحن قديم يصعد من عمق الغابات الخضراء وقمم الجبال الشاهقة وامتداد السهول الفسيحة.

تقلع إلهام عن كتاب التقارير الأمنية، وتعود إلى كتابة رسائل الحب الطفولية، ولا تقبل هند بتاجر المواشي، لأنه لا يركض من أجلها نحو التلال الجرداء صباحاً ومساء، وتخلع سهير جلبابها الأسود لأنها شعرت بالاختناق به، مفضلة مطراً ربيعياً تحت أشجار الرمان بدلاً من ذهب الصحراء، ولن يغري جورجيت الصدر العاري الرياضي لبطل كمال الأجسام، ويجعلها تبتعد عن دينها وأهلها، وتخرج رولا من مستشفى الأمراض النفسية معافاة، فقد كان انهياراً عصبياً بسيطاً عابراً، وهي تبتسم تحت المطر الآن دائماً بدلاً من البكاء. نقترب أنا وورد من الذروة معاً أكثر فأكثر، يداعبنا مطر ربيعي، يدخل عبر النافذة، ويملأ فضاء الزمان والمكان في الغرفة، يهطل في العيون وفي القلوب وفي الحنين، يرتفع انسياب الساقية بين الساقين، فتصبح نهراً يغمر الأعشاب حوله، يغمر الجسد والسرير وأرض الغرفة، يرتفع حتى النافذة ويلتحم مع المطر القادم عبرها، ومع هديل الحمام وزقزقة العصافير، ويتهادى تحت لوحة شيماء.

أصرخ مع لحظة الانتشاء “ورد، كيف أجعلك سعيدة؟”.

وكأني سمعت منها همساً، صوتاً، صراخاً، “هل تريدني حقاً أن أكون سعيدة؟”.

أجيب “نعم سأفعل كل ما تريدين وكل ما ترغبين حتى تكوني سعيدة”، قلتها من أعماق قلبي وقد انفلتت ذروة النشوة منا معاً وساحت، وتبعثرت.

في لحظة الانصهار هذه تقول ورد “أريدك أن تنسى العيون العسلية!”.

العيون العسلية! من أين جاءت ورد في هذه اللحظة بالعيون العسلية. لا أدري بماذا أجبت، ولكن الأمور كانت قد أفلتت من يدي، ويبدو أنني غمغمت بشيء ما، ولكن ما إن ارتد وعيي قليلاً إلا وشعرت وكأن عرقاً بارداً تصبب على كامل جسدي، وسقطت في هاوية، وشيء في داخلي يصرخ “لا، لا أستطيع، تركت كل شيء ورجعت من أجل البحث عن عيون عسلية”.

تتمدد ورد منتشية وكأنها حصلت على ما أرادت، إذ لم أدر ماذا انتزعت مني قبل ثوان، هل وعدتها بشيء عن العيون العسلية؟ المرأة ذكية، تستطيع في لحظة جنون جنسي أن تنتزع من الرجل ما تريده.

تجول نظراتي حائرة في الغرفة، حبات المطر تقرع زجاج النافذة، والليل انسدل خارجها بعتمة كثيفة بسبب الغيوم الداكنة، الساعة الجدارية، المصباح المطفأ على طاولة تبعثرت عليها أوراق الكتابة، لوحة شيماء عن العيون العسلية معلقة على الجدار، وهذا المصباح المعطل الذي يشبه عيناً زجاجية مزروعة في السقف، هو الذي يراقبني، إنه يراقبني حتماً، وكأنه يرى كل ما أمارسه مع ورد، وما أبوح به لها….. أغفو، تتكور ورد في حضني، ونستسلم للنوم.

يأتي الصباح ثقيلاً، يوقظني هاتف صديقي بعنف “تجاوزت الساعة الحادية عشرة، ظننت أنك في عملك بالمركز، لنلتقِ بعد قليل وننهِ عمل البارحة”.

أنظر إلى الأجواء العاصفة والمكفهرة في الخارج عبر النافذة، أتحسس جسد ورد العاري والدافئ بجانبي “صديقي العاصفة مستمرة والأجواء غير مناسبة للقاء”.

يسخر صديقي “العاصفة أصبحت مستمرة بشكل دائم في بلدنا، وسيبقى المطر يتساقط دون نهاية، يبدو أنها لن تنتهي هذه المرة بهدوء، ولا معنى لتوقف الأعمال. وبالرغم من العاصفة يجب أن نلتقي مساءً هذه الليلة، لديَّ أشعار جديدة وزجاجة نبيذ معتقة من أرض البراكين الخامدة والصخور السوداء”.

“هل لديك مواعيد اليوم في المكتب، “أبو رعد” مثلاً؟” أسأله وقد قررت النهوض.

“ولا حتى الرفيق “أبو خالد””. يرد بثقة.

“وإذا ما جاءت زيارة مفاجئة؟”.

“نتصرف وقتها”.

تودعني ورد بقبلة جريئة في الشارع كالعادة، ولكنها هذه المرة تذهب وكأنها حزينة دون أن أفهم السبب، ثم تختفي تحت المطر في غمامتها، وأذهب أنا إلى وكر صديقي. أنزل الدرج وأنا أتمنى بأن لا تكون هناك مفاجآت جديدة في هذا اليوم، وخاصة هنا….. ولكن بما أن الأجواء مكفهرة وعاصفة، فمفاجأة من عيار ثقيل يجب أن تنتظرني. فما إن أصل إلى المدخل حتى ألمح رجلاً يجلس على الأريكة في مكتب صديقي، مديراً ظهره إلى الباب، الشعر الأشقر وأناقة الملابس، والصوت المهذب، كلها تجعلني أعرفه مباشرة، السيد لؤي! من أين انبثق، وكيف تصادف أنه موجود في موعدي بالذات، وبشكل خاص بعد لقاء البارحة مع “أبو رعد”، مصادفات؟!….. لا أحد يعرف بهذه التفاصيل إلا ورد، ولكنني على ثقة بأن ورد لا تتحدث مع أحد، أو ربما أحد ما يستغلها بطريقة ما دون أن تدري.

أقرر الانسحاب مباشرة وبهدوء، فمع السيد لؤي ومعلمه لا مجال للفضول وإبداء الذكاء، ولكن مثل هذه الحركات لا يمكن أن تنطلي على السيد لؤي، فمع الوقت سأكتشف أنه يمتلك ما يشبه الحاسة السادسة في مجال عمله، إذ إنه في اللحظة التي قررت فيها التراجع والانسحاب رفع يده محيياً دون أن يدير رأسه إلي ودون حتى أن يراني “أهلاً أستاذ، أنا انتظرك لنلتقي من جديد”.

لم يعد هناك من مجال للتراجع، وعندما التفت صدمتني نظرته وابتسامته الماكرة، أدخلُ وأجلسُ.

“تحيات المعلم لك”، قالها لي بكل احترام مع انحناءة خفيفة من ظهره، وكأن المعلم موجود بيننا، وتابع “عرفت أنك ستكون هنا، ولكنني وصلت منذ نصف ساعة، وتحدثت مع صديقك قليلاً”.

يبدو أن السيد لؤي يفهم اللعبة جيداً الآن ومعلوماته دقيقة، فصديقي لم يعد رفيقاً منذ وقت طويل، ولهذا يشير إليه دون هذا اللقب. أما عقلي أنا فلم يعد يفهم ما يدور حولي، وخاصة عندما يرتبط الموضوع بالمعلم والسيد لؤي.

يتابع السيد لؤي “أي كتاب لابن عربي أو الحلاج أو السهروردي…..” وتبادلنا نظرات الدهشة أنا وصديقي، فقد لفظهما بشكل جيد وبوضوح وبدون قراءتها من ورقة.

واستمر متابعاً بتمهل “….. هي كتب مميزة وضرورية الآن في هذه الأوقات، فهؤلاء المبدعون تركوا تراثاً صوفياً غنياً يغلب عليه الطابع الفلسفي، نَبَع من تراكم الخبرات والمذاهب المتنوعة في منطقتنا، تراث منسجم مع بيئاتنا الاجتماعية التي تسيطر عليها العلاقات الحميمية والودودة، والتي يشغلها العشق بكل أشكاله، وبشكل خاص العشق الإلهي”، قال كل ذلك بهدوء وكأنه يعطي كل كلمة معناها ودلالتها في سياق الجملة، فهو يعرف بما يتحدث.

نتبادل أنا وصديقي نظرات الدهشة والاستغراب، بحيث أن تعابير ذلك بدت بوضوح على وجه صديقي، أما أنا فعلى درجة أقل، فقد اكتشفت سابقاً لدى المعلم في “جهاز الاشراف الحضاري ـ قسم المعلومات” ثقافة موسيقية عالية، وها هو السيد لؤي يبدي معرفة عميقة بالتيارات الصوفية في تاريخيتها.

يسأله صديقي بثقة العارف، فهذه كتبه وهذا مجال عمله “ولماذا هي ممتازة وضرورية برأيك في هذه الأوقات بالذات يا سيد لؤي؟”،

يبتسم السيد لؤي بمكر شديد “هذا رأي المعلم…..”. وقالها من جديد بكل الاحترام مع الانحناءة الخفيفة من الظهر، “….. فهذه التيارات الصوفية المسالمة تستطيع أن تسحب البساط من تحت أقدام التيارات الأصولية القادمة من الصحراء، والتي تدعو إلى العنف، وتقطع الطريق عليها. وهي تستطيع أيضاً أن تجذب إليها الشباب المتدينين، فينشغلون بأحوال الاتصال والتوحد مع الإله بدلاً من الاتصال والتوحد مع أمراء الجماعات الذين لا يعرفون إلا العنف والقتل، هؤلاء الذين تضخ لهم الصحراء ذهباً تمت مراكمته من أموال النفط”.

ويجد صديقي الفرصة ليسأل عندئذ “ولكن لماذا تلاحق أجهزة الاستقرار كتب هؤلاء الصوفيين الثلاثة؟”.

يجيب السيد لؤي “جهاز الاشراف الحضاري ـ قسم المعلومات يتابع الأمور بدقة، وخاصة أن معلمنا المحترم قد استلم الموضوع بشكل شخصي. هناك خطأ تقني، فلقد تبين أن أحد أئمة المساجد كتب تقريراً كاذباً إلى قسم الاستقرار، أراد به ضرب حركات التصوف الحالية، ليخلو الجو له ولجماعته الأصولية. وعند دراسة التقرير من قبل المحللين في قسمنا اكتشفنا بسرعة وبكل بساطة أن من كَتبَه يتلقى معونة مستمرة من الصحراء، ويتلقى تعليماته من هناك بشكل أسبوعي، وعرفنا أهدافه الخبيثة بسرعة”.

“ولكن “أبو رعد” جاء إلى هنا وطلب عناوين سكنهم؟”، سأل صديقي.

“لا تهتم كثيراً بهذا الأمر، فالمعلم يعرف أن ابن عربي مولود في الأندلس، وعاش ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر، أي في وقت لم تكن فيه بلدنا الحالية موجودة، وله كتاب صعب ومعقد من عشرين مجلداً اسمه “الفتوحات المكية”، ومات ابن عربي ميتة طبيعية”.

“والحلاج؟”، سأل صديقي في محاولة لاستثارته وإبداء انزعاجه مما حدث البارحة.

“الحلاج، الذي يخطئ صاحبنا بلفظه، لديه هذا الاسم بسبب نَسَبه لصنعة والده الذي كان يحلج القطن، وبعضهم كان يلقبه بحلاج الأسرار، أي كاشفها. هذا الصوفي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي كان كمن أصابه مس من جنون بالنسبة لمن حوله، ليس بسبب فكرة وحدة الوجود كما لدى ابن عربي، بل لتفكيره المستمر بالاتحاد مع الإله والتماهي معه عشقاً، ولذلك تم الإفتاء بأنه كافر بالشريعة، وبعد إيداعه السجن ثماني سنوات لم يتراجع عن تفكيره، فقطعت يداه ورجلاه، ثم أُحرق جسده ورمي في نهر دجلة في العراق، ميتة شنيعة أليس كذلك؟”.

وحتى لا يتوقف السيد لؤي سارع صديقي وسأل “ولماذا يهتم” أبو رعد “بالأصول الإسلامية للسهروردي؟”.

“الذي كتب التقرير يكره الإسماعيليين، ويرى أنهم تعاملوا مع الفرنجة في أثناء الغزو الصليبي في إحدى الفترات التاريخية. وشهاب الدين السهروردي المقتول عاش في القرن الحادي عشر، وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى بلده سهرورد الواقعة في بلاد فارس، هو إسماعيلي نزاري، تلقى علومه في قلعة “آلموت “الشهيرة، الواقعة في أعالي الجبال ببلاد فارس. وفي حلب أفتى فقهاؤها بهدر دمه متهمين إياه بالكفر والزندقة، عندما لم يستطيعوا مواجهته، وقد خيره الملك الظاهر غازي ابن الناصر صلاح الدين بالميتة التي يرغب بها، فطلب هذا الصوفي أن يحبسوه في مكان مغلق وأن يُمنع عنه الأكل والشرب حتى يموت، وقد ندم الملك على قتله بعد ذلك”.

نهض السيد لؤي دون أن يسمح لنا باسترداد الأنفاس من وقع صاعقة معلوماته ـ أقصد معلومات معلمه ـ علينا، وأثناء خروجه لم ينسَ أن يلقي نظرته وابتسامته الماكرة عليَّ “هل أمورك بخير مع عوالمك الماورائية….. سنلتقي قريباً”.

شعرت بصداع شديد مفاجئ وقلق داخلي بعد خروج السيد لؤي، وسألت صديقي “عن ماذا كنتم تتحدثون قبل حضوري”.

رد صديقي عليَّ بلهجة شك تساوره نحوي “تحدثنا! لم نتحدث، هو تحدث، يعرف كل شيء عن أعمالي وتحركاتي ومشاريعي، يعرف كل شيء عن سهراتنا أنا وأنت….. ولميس، وكأنك تنقل له كل التفاصيل!”.

“وبماذا تساورك الشكوك؟ “أسأله.

“ليس بك، ولكن بالوضع الذي يجمعني معك ومع لميس، ودون أن تُحضر ورد لسهرتنا”.

أشعر بجفاف قاسٍ في حلقي، لقد فعلها السيد لؤي إذاً! يستمر صديقي “….. سهام وفهمنا قصتها، لا تخرج معك من المنزل لأنها من أسرة تقليدية، أما ورد فلماذا لا تخرج معك! هل هي قاصر ولا تستطيع التجول معها خوفاً من القانون؟ منذ متى كان لديك ميلاًَ شاذاً نحو القاصرات”، قال كل ذلك ولا زالت لهجته مستنكرة.

“السيد لؤي هو الذي أوحى لك بكل هذا، أليس كذلك؟”.

“قال شيئاً بهذه المعاني بعد أن سألني سؤالاً غريباً لماذا نحب بعضنا”.

كان علي أن أجد تبريراً قوياً يفهمه صديقي، وإلا فإن التوتر سيسود بيننا، “أنت تعرف أن لميس موجودة لأنها شعر ونبيذ، شيئان متناغمان وتتحكم بهما، ورد موجودة وغير موجودة، فهي موسيقى ومطر، والاثنان متناغمان، ولكن عندما يشعلان الحنين فأنا لا أعود أتحكم بهما…..”، ثم أكملت وكأنني أحدث نفسي “لا أرغب بفقدان ورد، وفي الوقت نفسه أبحث بإصرار عن عيون عسلية”.

فهم صديقي بمقاربتي الشعرية هذه الحقيقة، متجاوزاً إيحاءات السيد لؤي الخبيثة، إلا أنني قبل خروجي سألته فجأة “هل في سقف غرفتك مصباح معطل يشبه العين الزجاجية؟”.

أجاب باستغراب “نعم يوجد، ومالك المنزل قال لي بأن لا أهتم به فهو معطل”.

أسأله “وهل يزعجك وجوده؟”،

“أحياناً، لا على الأغلب يزعجني، وخاصة عندما أشعر بالاضطراب والبلبلة، أكون متمدداً بالسرير، ويجول ناظري في الغرفة، أتمنى عندئذٍ أن أحطمه”.

“المطبخ عندك دافئ وواسع ومريح، ما رأيك أن ننقل سهرتنا الليلة إليه؟”.

يصبح الجو ودوداً مع صديقي، نتفق على اللقاء مساءً، مع لميس والشعر والنبيذ. خرجت من القبو وكانت تمطر، مطراً ليس مريحاً ولكنه ليس مزعجاً، فالأفكار تبلبلني، “أبو رعد”، السيد لؤي، صديقي، لميس، وصراع شديد في داخلي ما بين ورد وفتاة قادمة بعيون عسلية، رأيتها تناديني ذات حلم ورجعت لأجلها.

* * *



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى