سوريا

هل انهارت خطوط الدفاع لدى طهران في دول المنطقة؟



أقامت إيران خطوطاً دفاعية عسكرية عنها وعن أراضيها داخل دول المنطقة، لتمتد بنفوذها من بحر قزوين الى ساحل المتوسط شرقاً، بحيث يكون استهدافها شبه مستحيل بالمباشر من قبل الغرب والولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل، وتكون هذه الأذرع العكسرية المُقامة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، كفيلة بإشغال الأميركي والإسرائيلين.

ومن هنا تعزَّز الحضور المسلَّح لقوى الأحزاب والميلشيات في هذه الدول على حساب سيادة هذه البلدان، عبر التقسيم العامودي الفئوي والطائفي والمذهبي، تحت ستار تحرير فلسطين والقدس كعنوان أبرز يمكن أن يستمر إشعاعه حتى آخر الدهر.

وفي ظل الحرب الصامتة التي كانت تخوضها مع الإسرائيلي في الاستهدافات التي قتلت العديد من المسؤولين والأدمغة الإيرانية من قادة البرامج النووية والفيزيائية في داخل إيران وخارجها.

لكن ما الذي تغيَّر بعد حرب غزة..؟ ولماذا انتقلت المواجهة لتصبح علنية بين الجمهورية الإيرانية وإسرائيل..؟ هل هو بسبب فشل وحدة الساحات، أم بسبب نقمة الشعوب الواقعة تحت سطوة الأحزاب المسلحة والممارسات الميليشياوية بعد تفكيك الدولة وانهيار مؤسساتها، كما سوريا ولبنان..؟

فقد اتخذت المواجهة بين إيران وإسرائيل مؤخراً مساراً مختلفاً عن قواعد الاشتباك المعمول بها، التي حكمت العلاقة بين الطرفين لسنين مضت، بخاصة في ظل تزايد النفوذ والوجود الإيراني على الأراضي السورية تحت عنوان مستشارين عسكريين لمساعدة النظام، وحتى عند انسحاب جيش النظام السوري من لبنان بتاريخ 26 نيسان 2005 إثر اغتيال الرئيس الحريري، لم تكن رغبة إيران الانسحاب الكامل من لبنان، بل إعادة تموضع الجيش في البقاع حتى يستمر في إشغال الاميركي، وإبقائه كخط دفاعي أول قبل التأكد وتجهيز حزب الله في ترسانته العسكرية، ليخوض غمار حرب تموز 2006 من بعدها، بعد تعثُّر كل اتفاقيات طهران مع الغرب بما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية والنووي والصواريخ البالستية.

فإيران تعترف بالأهمية الاستراتيجية التي تحتلها الجغرافيا السورية كعامل مساعد ومكمِّل لمشروعها الإقليمي، لا بل تعتبر أن سوريا هي حلقة الوصل لإيذاء إسرائيل وابتزاز أميركا والغرب، وبالتالي حكماً فإن وجودها في دمشق يُعتبر خط دفاع أول مع لبنان، وأساسي في مشروعها وتوسع نفوذها، ولهذا كانت الاستماتة كبيرة في الدفاع عن النظام السوري واستقراره والحفاظ على وجوده.

إيران كانت مستعدة وتنبَّهت لخطورة هذه الاستهدافات لقادتها العسكريين، وهو ما دفعها لاتخاذ آليات وترتيبات أمنية مختلفة، خشية الاختراق والتسرُّب الحاصل في المعلومات الأمنية.

وفي خضم ذلك، رفعت تل أبيب منسوب المواجهة مع طهران بعد عملية طوفان الأقصى، التي اعتبرتها مسؤولة مباشرة عمَّا جرى، ولا بدَّ من تغيير قواعد الاشتباك واللعبة القائمة، للوصول إلى تفكيك وضرب كل القادة الإيرانيين العسكريين المسؤولين في سوريا أو لبنان، والموجودين باستمرار على حدودها، هذا ما توضَّح من خلال نوعية العمليات والاغتيالات التي قامت بها إسرائيل في سوريا ولبنان مؤخراً، لضرب التركيبة الهرمية العسكرية لطهران، بعد أن نجحت واشنطن في تحييد قاسم سليماني، واعتبار أن الطريق صار معبَّداً للقضاء على الفريق المتبقِّي الناشط والمخطط لمسرح العمليات العسكرية في غزة وسوريا ولبنان.

أيضاً إيران كانت مستعدة وتنبَّهت لخطورة هذه الاستهدافات لقادتها العسكريين، وهو ما دفعها لاتخاذ آليات وترتيبات أمنية مختلفة، خشية الاختراق والتسرُّب الحاصل في المعلومات الأمنية، وهذا يوضح أن العملية التي استهدفت وجود الضباط الإيرانيين وقادة قوة القدس في سوريا ولبنان داخل مبنى القنصلية الإيرانية بدمشق، وتحت حماية القانون الدولي يجعله كجزء من السيادة الإيرانية، يأتي كل ذلك في إطار الإجراءات الأمنية الجديدة التي اتخذتها طهران لتخفيف الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة، لكن حجم الضغط الدولي الغربي والعربي على تل أبيب وارتباكها في الداخل، دفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إسقاط كل الاعتبارات الدولية، وأن يذهب إلى خرق قواعد الاشتباك المعمول بها في الضربات المتبادلة بينه وبين الجانب الإيراني.

هذا الاستهداف الخطير للقنصلية الإيرانية في دمشق، والصفعة القاسية التي لحقت بمؤسسات طهران العسكرية والأمنية، وضعها مع قادتها أمام تحدِّي الدفاع وضرورة الرد، لأنها تعرضت لاعتداء واضح ومباشر، وهشَّمت صورة فيلق القدس الممتد على هذه الجغرافيا الإستراتيجية، حتى لو صرح وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بأنه يحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، وكذلك حتمية الرد الإيراني تحولَّت إلى قضية اعتبارية للنظام الإيراني وقوة ردعه، لأنها عملية حصلت على أراض إيرانية باستهداف مباشر، وليس كعمليات استهداف علماء البرامج النووية التي حصلت سابقاً والتي لم تخرج عن سياق دائرة الصراع الكلاسيكي والاتهامات.

عملية الرد الايراني لا بدَّ وأن تكون مباشرة وبأدوات إيرانية عسكرية وأمنية، وليس بوساطة أذرعها في الإقليم.

حجم الانكشاف العسكري والأمني الإيراني كان كبيراً، خصوصاً أن الشعارات الإيديولوجية والعقائدية التي يرفعها النظام، تقود معها وتحت عباءتها كل محور ما يسمَّى بـ “الممانعة”، خاصة في ظل حجم الخسائر الكبيرة التي حصلت في غزة والمواجهة مع حزب الله التي كلفته كثيرا سياسياً وأمنياً ومادياً وبشرياً، بالتالي فإن عملية الرد الإيراني لا بدَّ وأن تكون مباشرة وبأدوات إيرانية عسكرية وأمنية، وليس بوساطة أذرعها في الإقليم، فالسكوت عن الرد يجعل التطاول الإسرائيلي أوسع وأكبر، وقد يفتح الباب لضرب وتصدُّع مشروع طهران الإقليمي في المنطقة بسبب التراخي تجاه إسرائيل، خصوصاً ما يتعلَّق بعامل الصدقية التي تكرِّس له إيران مفاهيمها لقيادة المنظومة، باعتبارها قوة كبرى قادرة على المواجهة، وبالتالي فهي اليوم مجبرة على الدفاع عن مشروعها في الاستمرار في قيادة الإقليم، أقله في مياه الخليج العربي ومداخل البحر الأحمر وباب المندب.

أخيراً، من البدهي والثابت أن خطوط اتصال قد جرت بين واشنطن وطهران على خلفية استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، بغية التأكيد والحرص على عدم توسُّع الحرب في المنطقة، وفق رغبات نتياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، وهو حتماً ما قد يدفع الطرفين للتوصُّل إلى تفاهمات وتسويات بالرد على هذا الاستهداف من دون توسُّع، أو السماح له بالتطور نحو حرب شاملة قد تحقق ما يرغب فيه نتنياهو من توريط لواشنطن وطهران فيها مباشرة، ففي كلا الحالتين فإن إيران هي الخاسرة على مستوى الإقليم، سواء لناحية تطويع أذرعها العسكرية والمنتشرة في الإقليم واستهدافهم الواحد تلو الآخر، أو بالاكتفاء بالرد المحدود، وهو ما يسقط كل المفاهيم الاعتبارية في إنشاء الفصائل والأذرع العسكرية في دول المنطقة، التي صارت دون جدوى بل عبئاً كبيراً على التسويات في الإقليم، ومن دونهم فإن طهران هي ذئب من دون أنياب.

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى