سوريا

عن غزّة التي خفَّضَت سقف كلّ وطن



في فترة ما من أوائل التسعينيات، بدأت تصلنا جرائد النظام إلى سجن صيدنايا. كانت تلك واحدة من أعظم الانفراجات للمعتقلين بعد سقوط جدار برلين. في تلك الصحف، كان أكثر ما يضحكنا وجود أخبار، تتواتر كل فترة، عن السجون في بلدان أخرى، خصوصاً إسرائيل.

غالباً ما تتحدث تلك الأخبار عن الضغط النفسي الذي يتعرض له المعتقلون في تلك الدول. وهي للأمانة أخبار محقّة وصحيحة. لكن المفارقة بالنسبة لنا كانت أنَّ آخر من يحقّ له التحدث عنها هي صحف نظام حافظ الأسد، إن لم نقل أنه كان عليها الخرَس المطلق. حينذاك كنّا نبتسم بمرارة ونحن نطالع آثار الكابلات على الجسد، ونتحسس هزّات الصعقات الكهربائية في الدماغ. نعم، أخبار محقة عن سلوكيات تستحق الإدانة، ولكن أن تصدر عن نظام يُصفّي معارضيه، ويخضعهم لأشد أنواع التعذيب، فتلك نكتة تدعو للغثيان.

نتابع جميعاً منذ أيام، انتفاضة الطلاب الشجاعة في الجامعات الأميركية، وهذا حسب المراقبين، ما لم تشهده الولايات المتحدة منذ الاحتجاجات على حرب فيتنام عام 1968. الأمر الذي يدعو للتفاؤل بأن شيئاً ما قد يتغير في السياسات الأميركية المنحازة لإسرائيل في ارتكابها للمجازر ضدّ المدنيين من سكان غزّة. إن حدث هذا، فسوف يكون بفضل الضغط الذي تمارسه مجتمعات الطلبة الجامعيين تلك، وهي ذات وزن ليس بالقليل. ومنذ بداية التحرك، بدا الإرباك على الساسة الأميركيين، خصوصاً أنه يحدث في عام الانتخابات الرئاسية الأميركية.

أسهمت الحرب على غزّة بتبيان أن ليس فقط في بلدان الاستبداد هناك سقف للوطن، بل في معظم دول العالم، بما فيها دول (الديمقراطيات الغربية). لسنوات طويلة كانت النكتة تخصّ بلداننا، بأن الحكومات تسمح بتوجيه الانتقاد لها “تحت سقف الوطن”.

عموماً، أسهمت الحرب على غزّة بتبيان أن ليس فقط في بلدان الاستبداد هناك سقف للوطن، بل في معظم دول العالم، بما فيها دول (الديمقراطيات الغربية). لسنوات طويلة كانت النكتة تخصّ بلداننا، بأن الحكومات تسمح بتوجيه الانتقاد لها “تحت سقف الوطن”، وهو ما تَمثّل بصورة كاريكاتيرية، بأن هذا السقف ما هو إلا نعل البوط العسكري الذي تحكم تلك السلطات بوساطته.

إبّان حرب غزة تبين أنه من الممكن أن يكون سقف الحريّات واطئاً في دول الغرب عموماً، عندما يتعلق الأمر بتناول مواقف تلك الدول وانحيازها الجلف لدعم الجرائم الإسرائيلية، حيث لجأت السلطات لقمع المنددين بحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزّة. تابعنا ذلك، خصوصاً في ألمانيا حيث العقدة الإسرائيلية أكثر استحكاماً، وهو ما يحدث اليوم إلى حدٍّ ما في قمع تحركات الجامعات الأميركية. ليتبيَّن أن لكل وطن سقفه، ولو ادعت الحكومات غير ذلك.

حول اعتصامات الجامعات، صرح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قبل يومين بأن “أدعياء حرية التعبير، لا يلتزمون بشيء سوى الحفاظ على سلطتهم، وإن انتفاضة الطلاب والأساتذة والنخب الداعمة لغزة، حدث كبير، ولن تنطفئ بالاعتقالات والعنف”.

قبل رئيسي، كانت ممثلية إيران في الأمم المتحدة قد ندّدت أيضاً: “ندين بشدة القمع الوحشي للاحتجاجات السلمية في الجامعات. إن وحشية الشرطة الأميركية والاستخدام المفرط للقوة التي استهدفت الطلاب، يشكل لنا مصدر قلق بالغ… إننا نطالب بالإفراج عن جميع المعتقلين”.

رغم أحقية ما قيل، فيما لو جردناه عن قائليه، إلا أن المتابع للتصريحات الإيرانية، ومثلها ما تورده هذه الأيام، صحف نظام الأسد، يوشك أن يصرخ، متيمناً بكوميديا الزعيم الليبي “من أنتم؟”. في يوم 8 يوليو/تموز عام 1999، بدأ نحو مئة من الطلاب الإيرانيين مظاهرات سلمية في طهران، احتجاجاً على إغلاق إحدى الصحف الإصلاحية “ديلي سليم”. ليلاً، دهمت السلطات الطلاب في السكن الجامعي، نتج عن تلك الغارة قتيل من الطلاب إضافة لجرح العشرات واعتقال المئات.

قام 400 فرد من القوات شبه العسكرية، من أنصار الباسيج بملابسهم المدنية (ممن يستلمون مرتباتهم من الحكومة)، بمهاجمة الطلاب وتحطيم الأبواب والقاعات. شدّوا الطالبات من شعرهنّ، وسحلوهنَّ في الممرات. أشعلوا النار في بعض الغرف. تمّ إلقاء العديد من الطلاب من الشرفات إلى الرصيف فتحطمت عظامهم، وأصيب أحد الطلاب بالشلل التام. ووفقاً لروايات الطلاب، وقف رجال الشرطة بالزي الرسمي على طرف الشارع، دون أن يفعلوا شيئاً.

حرب الإبادة على غزّة كانت فضيحة الغرب، إذ خفّضت ارتفاع سقف كلّ وطن.

خلال أسبوع بعد تلك الليلة، توسعت الاحتجاجات، وانتقلت إلى جامعات أخرى، في مختلف المدن، شارك فيها خمسون ألف طالب على الأقل في طهران، وعشرات الآلاف غيرهم في المدن الأخرى. قتلت القوات الإيرانية خمسة طلاب جامعيين (سبعة عشر بحسب الطلاب)، وجرحت 200 آخرين، واختفى ما يزيد عن 70 طالباً، إثر اعتقال نحو 1400 من الطلبة، بحسب هيومن رايتس ووتش.

كانت تلك أول انتفاضة ضخمة بدأها الجيل الذي ولد في ظل نظام الجمهورية الإسلامية. وكانت بمواجهة كاملة ضد المحافظين والإصلاحيين، والمطلب الرئيسي للطلبة، استبدال حكام الجمهورية الإسلامية بحكومة ديموقراطية. احتجاجات عام 1999 شكّلت أساساً للحركة الخضراء عام 2009 التي بدأت تقريباً مع الذكرى السنوية العاشرة لانتفاضة طلاب جامعة طهران، وهنا قادها الطلاب أيضاً، وقمعتها حكومة المرشد بقسوة شديدة. وصولاً إلى مظاهرات “المرأة، الحرية، الحياة” إثر مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني عام 2022. حيث دعت مجموعات شبابية الناس للنزول إلى الشارع وتحويل “يوم الطالب” الذي يتم إحياؤه كل سنة إلى “يوم رعب للحكومة”.

رغم أن أسوأ ما يمكن أن يدافع عن قضية محقّة، كمسألة رفض وإدانة قمع الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية، هم أولئك ممن يمتلكون تاريخاً إجرامياً في قتل الطلاب وسجنهم وتصفيتهم، كنظام إيران، ونظام الأسد الذي يمتلك سجلاً حافلاً في انتهاك الجامعات السورية. ولكن هذا لا يمنع أبداً من القول أنه بات يمكننا تعميم مقولة إعلام الأسد (كوميدياً) على معظم الدول. حرب الإبادة على غزّة كانت فضيحة الغرب، إذ خفّضت ارتفاع سقف كلّ وطن.

 

 

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى