سوريا

دورة حياة السوريين الشاقَّة.. مات أنور جعفر



لا يحتاج السوري العادي (النورمال)، ما لم يكن من فئة المتسلّقين، أن يزخرف قصة حياته (مأساته) كي يستدّر الإعجاب أو التعاطف أو حتى الاهتمام. ثمة في حياته ما يكفي لتكون روايتها كما هي، محط ذهول، فيما لو كان المستمع أو القارئ، لا يعرف عما جرى في سوريا خلال العقود الأخيرة.

هل تعرفون أنور جعفر؟ بالطبع لا. ومن هو كي تعرفونه! إنه نموذج عن السوري الذي امتلك كل ما يؤهله ليكون شخصاً ناجحاً وسعيداً، لولا أنه ولد وعاش في سوريا، والأدهى في حقبة الأسدين الابن والأب. لولا ذلك، لعاش حياة طبيعية يمكن أن يتوقف في الكثير من محطاتها ليتباهى، ويقول متيمناً بعنوان مذكرات نيرودا “أعترف بأنني قد عشت”.

من يفتح صفحة الرجل على فيسبوك، عمرها سبع سنوات، لن يجد أية كتابة على الإطلاق! هناك فقط صورتان، الأولى سوداء مصمتة، والأخرى صورة ليلة مظلمة تماماً، تتوسطها نقطة بيضاء صغيرة، ستعرف أنه قمر صغير باهت، فيما لو لجأت لتكبير الصورة. تبدو صفحته تشبهه وتشبه حياته، لمن يعرفونه عن قرب. صامت على الأغلب، ويعيش في عوالمه الداخلية الخاصة.

حياة الرجل بدت سلسلة من الفجائع المتراصّة والمتتالية.. حين كان متخفياً ومتوارياً عن أجهزة المخابرات في دمشق، علم مصادفة أن أباه قد توفي قبل عشرة أيام. بكى وحيداً داخل غرفته في الدويلعة..

حياة الرجل بدت سلسلة من الفجائع المتراصّة والمتتالية.. حين كان متخفياً ومتوارياً عن أجهزة المخابرات في دمشق، علم مصادفة أن أباه قد توفي قبل عشرة أيام. بكى وحيداً داخل غرفته في الدويلعة، وكلما كان يفكّر في زيارة أمه التي باتت وحيدة في مدينة السويداء، كانت تأتيه التنبيهات من الأصدقاء، بأن ذهابه لبيت الأهل لن يعني سوى اعتقاله، فلم يفعل.

المحيطون به، يعرفون كم كان بارعاً في العزف على الغيتار، وكم كان الاستماع إلى عزفه يأخذ المحيطين به إلى عوالم من الخدَر. في واحدة من لحظات سجن صيدنايا، وقد قضى فيه ثماني سنوات، أخذ الغيتار الذي صنعه من أخشاب صناديق الخضار (السحاحير)، وراح يعزف طويلاً، بقهر شديد، وهو ساهٍ عن كل ما حوله. قبل أن ينتهي من العزف نبهه الأصدقاء إلى أن الدم بدأ يسيل من أصابعه دون أن يشعر.

في سجنه، كانت أمه هي الوحيدة التي تربطه بالحياة. لكن تصاريف القدر لم تمهله كثيراً، وجاءه الخبر إلى السجن، لقد ماتت. اعتكف لأيام لا يكلم أحداً، ولا أحد يعلم أي حرائق كانت تشتعل في داخله، حتى أخرجه الأصدقاء، كعادتهم في مثل تلك الظروف، من حالته عنوةً. وفي حالته تلك طلبوا منه ليروِّح عن نفسه أن يعزف، فسال ذاك الدم على الغيتار.

بعد خروجه من السجن، وكمعظم السجناء، عارك في الحياة كعادته منذ اليفاعة، إلى أن استقرّ كصانع للحلوى! سيبدو الأمر مفارقة، فما شأن الموسيقي البارع وجسده الرقيق بصناعة الحلوى؟

بعد خروجه من السجن، وكمعظم السجناء، عارك في الحياة كعادته منذ اليفاعة، إلى أن استقرّ كصانع للحلوى! سيبدو الأمر مفارقة، فما شأن الموسيقي البارع وجسده الرقيق بصناعة الحلوى؟ مثلكم، لا أعرف الجواب. ولكني أخمّن، بطريقة رومانسية، أن أصابعه التي لا تجيد صناعة إلا كل ما هو حلوٌ، هي من قادته ليصنع الحلوى. ومعها كوّن أسرة لطيفة وجميلة، لكن ثانية لم يمهله القدر كثيراً، فرحلت زوجته، بعد إصابتها بمرض قاتل، وتركته وحيداً مع ابنته وابنه.

اعتقدتُ من تجربتي الشخصية، رغم أنها ليست قاعدة من دون استثناء، أنه في السنوات الأولى لخروجه من السجن كفَّ عن الحلم بسوريا التي طالما تحدّثنا عنها، حتى رأيت صورته في ساحة الكرامة في السويداء، فعرفت أنها دورة الحياة لمن هو مثله. وأن حلمه، مثل معظمنا، قد يخبو في لحظات اليأس، لكن لا بد له من العودة للاشتعال.

يعتقد كل من يعرف أنور جعفر، أنه لو عاش حياة طبيعية، في بلد آخر ليس فيه كل هذا العسف، لكان موسيقياً مشهوراً، وربما كنا سمعنا باسمه جميعاً، أو لربما كان عاش على الأقل حياة لم تدخله في كل تلك التجارب الشاقّة، من حياة التخفّي التي صادف فيها احتمال الموت أكثر من مرّة، إلى السجن، ثم العودة لمعاركة الحياة دون سند، تجارب قاسية ستبدو كثيرة لتتراكم على إنسان واحد في حياة واحدة. ولكن هل كان أنور استثناءً سورياً؟ بالتأكيد لا. فسجون هذا النظام أهلكت من المواهب والكفاءات ما لا يمكن تخيّله. إنها دورة طبيعية للحياة في بلاد الظلم والحيف، وقتل وإطفاء كل ما هو مضيء.

يعتقد معظم الناس، من مختلف الأعمار، أن حياتهم الحقيقية هي التي ينتظرونها، وهي لم تأتِ بعد.

يعتقد معظم الناس، من مختلف الأعمار، أن حياتهم الحقيقية هي التي ينتظرونها، وهي لم تأتِ بعد. وأرى أن أنور كان من هؤلاء الذين ينتظرون أن تنصفهم الحياة في لحظة ما. للأسف هذا لم يحدث ولن يحدث في حالته. منتصف هذا الأسبوع، مات أنور دون أن تتيح له الحياة فرصة ليردد خلف نيرودا ما قاله. بين إصابته بمرض في الدماغ وموته كانت هناك عدة أسابيع فقط، قضاها في غرف العمليات والغيبوبة. هكذا مضى ولم يترك لنا سوى صورتين. صورة سوداء كاملة، وأخرى مظلمة يقتحمها قمر صغير ربما يشبه عائلته.

ولكن ما شأنكم بأنور كي أكتب لكم عنه؟ الحقيقة كتبت ما كتبت لاعتقادي أنه حالة سورية متكررة، رغم فرادته، ويمكن اعتبار اكتمال دورة حياته، من الولادة حتى الموت، قصتنا جميعاً. في سوريا الأسد، وباستثناء من يماشون التيّار كيفما اتفق، فإنه ليس من المصادفات أن يكون أي أحد منا، نسخة مكررة عن تراجيديا حياة أنور جعفر الذي لا تعرفونه. 

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى