سوريا

شباب الربيع العربي إلى أين؟



منذ اللحظات الأولى لاشتعال الربيع العربي، كان الحامل الرئيسي في جميع أطواره هم من الشباب، الذين أشعلت حماستهم الشارع واستدعت إليهم جميع الطاقات، التي كانت كفيلة بإنجاحه، وكان المحرك الرئيسي لهذا الشباب هو إحساسهم العميق بالتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

حلم طالما راودهم كما راود آباءهم، أن يعيشوا في بلاد حرة، بعيدة عن الخوف والرعب اليومي، الذي تصنعه الأنظمة الحاكمة وأجهزتها الأمنية، في ذات الوقت الذي تقدم لهم الفضائيات وعوالم الميديا، أنماطا متقدمة من الحياة التي يعيشها أقرانهم في دول متقدمة، وما إن انطلقت أولى شرارات الرفض من تونس حتى تلقفت صداها جموع الشباب المتعطش للحرية والحياة في الوطن العربي، إلى أن تحركت القوى المناهضة لتلك الثورات متمثلة بالدولة العميقة التي كانت على موعد متخيل مع هذه الثورات وقد أعدت لإفشالها عدتها، مع مؤازرة العديد من القوى الإقليمية والدولية التي كانت تجد في صحوة الربيع العربي تهديدا لمشاريعها وخرائطها.

ومع طول أمد تلك الثورات، وفشل معظمها في أخذ فرصتها الكافية لترسيخ قيم تلك الثورة أو تلمس بعض ثمارها المأمولة، بدأت طاقات هذا الشباب بالاستنزاف والموت، سيما أن الوضع داخل بلدانهم حاصرهم بشكل شديد العدوانية، وصلت لحد الملاحقة الأمنية والانتقام، ولم يكن حال البقية الناجية منهم ممن غصت بهم مدن اللجوء بأحسن حالا، فهم يستنزفون بشكل يومي في ترتيب أوضاعهم القانونية وأوراقهم الرسمية، التي لا تنال إلا بشق الأنفس، وفي تدبير موارد الرزق الضرورية لحياتهم وحياة أسرهم، المتعذرة في كثير من الأحوال، لنجد الآلاف منهم اليوم داخل أوطانهم وخارجها، يعانون من أسوأ عوارض البطالة والعجز المطبق عن تأمين فرصة عمل تقيته وتعين أسرته، خاصة أن الشطر الأكبر ممن ثاروا وهم في أعمار 18-25 باتوا اليوم متزوجين ويعيلون أسرا جديدة وأبناء، وصاروا أمام هذا الوضع الجديد الذي لم يكن في الحسبان، مسكونين بإحساس عارم بالخذلان، الذي ذاقوه من جهات كانوا يأملون أن تساندهم، إضافة لخسارة معظمهم على صعيد البنية الاجتماعية، فالشطر الأكبر منهم خسر أصدقاء ومعارف وأقرباء، وحتى أخوة وأبناء، ممن خالفوه الاتجاه وكانوا مع الجهة الأخرى من الصراع.

تكشف العديد من الحوارات البينية التي تجري بين هؤلاء الشباب، عن مدى الخيبة والسوداوية واليأس المعشش في النفوس.

كل ما سبق سينعكس تاليا على تشكيل ذهنية الشطر الأكبر من هؤلاء الشباب ومن لحق بهم من شباب كانوا أصغر سنا عند انطلاق الربيع العربي، بعد أن عركتهم تجربة قاسية مريرة، مع غياب الدعم المؤازر من تيارات فكرية أو سياسية أو حتى حزبية كان يمكن لها أن تلم شتات هؤلاء الشباب وتستمر في تحفيز طاقاتهم، فلا يقعون ضحية الإحساس بالغربة والوحدة وذلك الشعور السيئ الذي تولد لدى الكثيرين الذين اكتشفوا أن حفنة من أشباه السياسيين البائسين الذين تنطعوا لإدارة المشهد السياسي وتوهموا أنهم يديرون دفة العملية الثورية في سنوات الصراع وما يزالون يحتفظون بمواقعهم ومكاسبهم، لم يكونوا على قدر الأمانة ولا المسؤولية، هذا إن طرحنا جانبا ذلك الرهط الكبير من المتسلقين، الذي لم تعرف الثورات منهم إلا التكسب والظهور، وما إن رجحت كفة الأنظمة المستبدة حتى اختفوا من المشهد، كأنهم لم يكونوا يوما من زعاماته.

تكشف العديد من الحوارات البينية التي تجري بين هؤلاء الشباب، عن مدى الخيبة والسوداوية واليأس المعشش في النفوس، ليس من سيطرة الأنظمة الاستبدادية وحدها، وليس من افتضاح كذبة دعم الدول الغربية المؤيدة والمنادية بالحرية والديمقراطية، والتي كشفت الوقائع أنها كانت من أشد داعمي تلك الأنظمة القمعية والمصرة على بقائها، وعلى إطفاء شمعة الربيع العربي الذي لم يكد يولد حتى عانق أكفانه، لم يعد هؤلاء الشباب يثقون بأهمية العمل في المجال العام ولا بجدواه، ولا بالرموز العاملين المتسيدين فيه، جميع هذا أنتج شريحة واسعة من الشباب المنزوي، والناقم والمسكون بالقهر والإحساس بالعجز، هذا الشباب الذي كان من المفترض أن تنعقد عليه الآمال، للانتقال إلى غد أفضل، بات اليوم أحد العقبات التي ينبغي أخذها بالحسبان، في أي مشروع أو تطلع لتغيير الأحوال، إن كان هذا ممكنا في هذا الجيل.

سنجد أن نمطا جديدا من أنماط التوحد يعيشها هؤلاء الشباب بانعزالهم في الفضاء السيبراني عبر مواقع التواصل، وسيستنزف قطار الهجرة الذي لن يتوقف، الشطر الأوسع منهم.

نتيجة لكل ما سبق سنجد ارتفاعا متناميا للاستعداد للعنف بمختلف أنماطه، وتبني الأفكار المنفعلة به، كما ستتجلى هذه النزعات المضطربة في خلق بيئة اجتماعية متوترة تشتد فيها النزاعات والمواقف المتطرفة لأبسط الأسباب، وبجولة سريعة أو خاطفة على أصداء الشباب ومواقفهم في صفحات التواصل الاجتماعي، ستجد ذلك الكم الهائل من اللغة العنيفة والمواقف الحادة دون مبرر واضح، وسنجد أن نمطا جديدا من أنماط التوحد يعيشها هؤلاء الشباب بانعزالهم في الفضاء السيبراني عبر مواقع التواصل، وسيستنزف قطار الهجرة الذي لن يتوقف، الشطر الأوسع من هذا الشباب الذي سيضيع معظمه في مدن لا تعرفه ولا يعرفها، مدن مؤسسة على المنفعة والمصالح المباشرة والأنظمة والقوانين التي لم يألفها من قبل، ولن يجد فيها روحا كانت تحييه في بلده الذي تركه مكرها، وسينسلخ من بيئته الاجتماعية ليكمل ما تبقى من حياته أسير حلم محطم، وضفة أخرى لن يبلغها أصلا، فثقة هذا الشباب بالغد تقول ما يقوله ميرفي في بعض قوانينه المزعومة “ابتسم فغدا حتما سيكون أسوأ”.

كل هذا يجعل من تشكل تيار يحمل هذا الشطر من المسؤولية، تجاه هذا الشباب الضحية أمرا واجب الوجود، إن كنا ما نزال نحتفظ ببقية أمل، المهمة الرئيسية لهذا التيار تتمركز في ترميم البيئة الاجتماعية، وخلق بدائل لها تفضي إلى حالة مقبولة من التماسك الاجتماعي الغني بالحوار، الذي ينمي الإحساس بالفاعلية ويخلق من جديد حلما بجدوى السعي والإصرار على العمل في الفضاء العام. كل ذلك يعد شرطا أساسيا لدعم هؤلاء الشباب الذين تجاوز معظمهم عتبة الشباب، فإذا كانت المعرفة المبكرة تهجر الطفولة، فإن الحرب الطويلة تدمر روح الشباب وتقتل الأحلام.

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى