سوريا

المواطنون في اليوم العاشر



تعرف غالبيتكم ربما قصة “النمور في اليوم العاشر” للكاتب زكريا تامر، وبالتأكيد تعرفون المغزى من القصة، وكيف يحوّل الجوع كائناً شرساً مثل النمر إلى كائن يأكل الحشيش.

إذاً إنه الجوع وقدرته على ترويض البشر وتحويلهم إلى كائنات تركض فقط وراء رغيف الخبز.

مع سلاح الجوع الذي أجاد حافظ الأسد استخدامه وترويض الناس به، كان هناك سلاح آخر مواز ولا يقل ربما خطورة عن سلاح الجوع وهو سلاح عزل وتشويه أي إنسان لا ينتمي لما يريده الرئيس أو لما يريده الأمين العام أو الحزب.

كل وزير وبسبب التربية القمعية البعثية يتصرف في دائرة وزارته وكأنه الرئيس، وكل رئيس فرع مخابرات يتصرف وكأنه هو من يحيي ويميت

وللأمانة فإن ماكينة القمع الكبيرة ولكي تبقى نشيطة كانت تفرّخ آلات قمع صغيرة ومتوسطة تعمل معها وبموازاتها وتخدم الهدف الكبير لكي يبقى الرئيس للأبد في الحكم. فكل وزير وبسبب التربية القمعية البعثية يتصرف في دائرة وزارته وكأنه الرئيس، وكل رئيس فرع مخابرات يتصرف وكأنه هو من يحيي ويميت. وذات يوم وخلال خدمتي الإلزامية شاهدتُ العسكري الذي يعمل كحاجب يمسح بوط العميد بالبويا ويلّمّعه.

وتمّ تعميم القمع وتفريخه عبر كل المستويات الاجتماعية، فالأب يتصرف مع أسرته وكأنه رئيس والأم تتصرف مع أولادها بعقلية الرئيس.

الأحزاب التي نشأت في السبعينيات ما كان منها منضوياً تحت مظلة الجبهة الوطنية التقدمية التي فصّلها حافظ الأسد على مقاس نظامه. كانت تمارس قمعها الداخلي في علاقة المنتسبين إليها مع أمينهم العام، فكل من يفكّر بترك الحزب جرى تشويه اسمه بطريقة مروعة. وكان من أحد معارفي شخص انتسب يوماً ما لحزب خالد بكداش ولاحقاً جرى تشويه اسمه بطريقة استبدادية، ولكنه كان يرد عليهم بطريقة ساخرة فكلما عقدوا اجتماعاً في مدينة ما، كان يذهب لهناك ويرفع حذاءه في وجه جميع الحاضرين.

أعرف ومن خلال دائرة معارفي الشخصية أنّ بعض المعتقلين السياسيين السابقين والذين انتموا يوماً ما لأحزاب يسارية عانوا الأمرين أيضاً داخل السجن من رفاقهم في الحزب، والتهمة أنهم اعترفوا تحت التعذيب على أسماء معينة في الحزب. إذ في داخل السجن ورغم أن الجلاد واحد ولكن الضحايا كانوا يتحولون لجلادين ويعزلون رفاقهم ويحاربونهم نفسياً داخل المعتقل. وأذكر أني شخصياً كنت يوما ما أمدح قصيدة البراءة لمظفر النواب التي كان يمجد فيها الانتماء للحزب الشيوعي العراقي ويرى من خلالها أن كل من يقدّم البراءة من الحزب هو خائن ويجب سحقه معنوياً. هل تذكرون كم صفقنا لهذه القصيدة.

وتتسع دائرة تفتيت وتشويه البشر والحياة، ويتحول الضحية إلى جلاد، ثم يعود مرة أخرى ضحية إلى أن تتحول الحياة إلى دائرة كاملة من الخوف والرعب وتبادل الاتهامات.

وأكاد أجزم أننا جميعاً في سوريا عشنا وتربّينا وشربنا المفاهيم والقيم بشكل خاطئ لأن البيئات التي عشنا فيها جميعاً كانت بيئات قمعية متعددة الألوان ولكن جوهرها واحد. فالحرية التي نطالب بها وهي هدف رائع لكننا لم نعرف معناها الحقيقي إلا عندما وصلنا إلى بلاد الغرب وتذوقنا دلالة أن تصان كرامتنا مثل البشر.

القصة إذاً ليست أسود وأبيض ولا قصة مؤيد ومعارض إنها أيضاً حكاية مجتمع متخم بالتخلف ويعاني الأمرين من ميراث التخلف الهائل، ويكفي مثلاً أن تطرح الآن إمكانية تطبيق فكرة الزواج المدني في سوريا الآن لتدرك حجم الكارثة التي نعيشها من خلال ردود الأفعال المنتظرة. تخيل الآن أن نطرح فكرة الزواج المدني في الشمال السوري، أي في مناطق نفوذ الجولاني!

ما عشناه خلال عقود هو أننا جميعاً كبشر كنا نعيش في سجن كبير اسمه سوريا الأسد. وهنا تنطبق تماماً على حالنا جملة مظفر النواب الشعرية “فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر سجون متلاصقة، سجان يمسك سجّان”.

خلال عملي الإعلامي سابقاً في صحيفة تشرين التابعة للنظام حدث مرة سوء تفاهم بيني وبين ممثل سوري مشهور ومعروف، حيث أحرجته أمام نجوم مصريين خلال فعالية في مهرجان دمشق السينمائي وذكرته علناً برأي قاله مرة ينتقد فيه الدراما المصرية بينما كان يومها مشاركاً في مسابقة المهرجان عبر فيلم قام هو بإخراجه. حيث استشاط غضباً وذلك حين التقيته لاحقاً في مكتب مدير مديرية المسارح فقال لي بالحرف الواحد مهدداً: “كان الوسط الفني والثقافي ينتظر مني إشارة لمحاربتك ومقاطعتك” هل لاحظتم الرئيس الممثل هنا كيف يفكّر.

في المدرسة يجب أن تطيع المعلم والمدير وعريف الصف، في البيت يجب أن تطيع الأب والأم والأخ الأكبر، في الحزب الحاكم أو المعارض يجب أن تطيع الأمين العام وتتبع التعليمات حرفياً.

في القصر كان علينا جميعاً أن نصفق للرئيس، نصفق لزوجة الرئيس ونصنع أمجادنا الذاتية من خلال صورة مع الرئيس أو مع حاجب الرئيس، حاجب الرئيس الذي يلمع بوط الرئيس

في درس الفتوة يجب أن تتدرب كجندي في معركة، في الشارع يجب أن تكون جلاداً وضحية، ضحية وجلاداً.

هل نتذكر معاً كم مرة اتهمنا أشخاص بأنهم مخبرون فقط لأننا لم نتفق معهم.

وفي القصر كان علينا جميعاً أن نصفق للرئيس، نصفق لزوجة الرئيس ونصنع أمجادنا الذاتية من خلال صورة مع الرئيس أو مع حاجب الرئيس، حاجب الرئيس الذي يلمع بوط الرئيس.

وعلى منوال التدمير المعنوي المخابراتي، انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي ومنذ سنوات موضة السخرية والاستهزاء من كتاب وروائيين مشهورين عرب أو غير عرب والأمر برمته كان عبارة عن محاولات تدمير معنوي لكل من لا نتفق معه. وذلك إرضاء لشعور العجرفة والعنجهيات الفارغة. فالسخرية حين لا تكون في مكانها الصحيح تصبح عبارة عن تنمر وتشهير. هل تذكرون معي كم عدد الذين سخروا من روايات الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي.

ومن أجل خاتمة لا تتسق مع السياق تحية إلى الكاتب زكريا تامر.



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى