سوريا

أطروحة “مسألة الدولة” لعزمي بشارة.. مساهمة نقدية بشأن تطوير وتعريف نظرية الدولة


يتناول عزمي بشارة في كتابه “مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات” الصادر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات موضوع فلسفة الدولة ونظريتها، وما خلصت إليه المدارس الفلسفية، ودراسات العلوم السياسية والاجتماعية.

وما سبق يفرض علينا التنويه إلى إمكانية اعتبار هذه الأطروحة مكملة لمشاريع بشارة الفكرية السابقة، بما يشمل كتاب “المجتمع المدني” بوصف الدولة شرط المجتمع المدني، إضافة إلى منجز “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” بمناقشة الجزء الثاني لنشوء فكرة الدولة في نهاية العصر الوسيط وبداية عصر النهضة في أوروبا، وكتاب “المسألة العربية” الذي ميّز بين الأمة والقومية، وأخيراً كتاب “الانتقال الديمقراطي وإشكالياته” الذي أعاد في صفحاته التأكيد على أن رسوخ الدولة شرط لنجاح الاننتقال الديمقراطي.

يشير بشارة في مقدمة “مسألة الدولة” إلى أن فكرة الأطروحة جاءت من محاضرة “الدولة والأمة ونظام الحكم: التداخل والتمايز” التي قدمها في الدورة الثامنة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية في العام 2021، لكنه فضّل عدم نشرها لاكتشافه حجم حاجة المكتبة العربية إلى عمل نظري يناقش مسألة الدولة، وهو ما يقدمه في هذه الأطروحة بصياغة مفهوم للدولة من منظور نقدي إنساني من جهة، ومن جهة أخرى، النقد الذي وجه إلى المفاهيم السابقة من منظور الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وعلوم الاجتماع والقانون.

عزمي بشارة

في إشكاليات ونظريات نشوء الدولة الحديثة

يميز الفصل الأول “إشكالية الدولة الحديثة وخصوصيتها” العلاقة بين الحكّام والمحكومين في الدولة الحديثة والدولة ما قبل الحديثة، إذ إنه بينما لم “يكن ثمة مشترك مؤسسي أو متخيّل يجمع الحكّام والمحكومين في الدول ما قبل الحديثة”، فإن الدولة الحديثة تميزت من شخص الحاكم “بأن تحوّلت من التجسد في صاحب السلطة العليا، إلى التجسّد في المؤسسات، بما في ذلك نشوء الرابطة المؤسسية والمعنوية المسماة دولة، التي تشمل الحاكم والمحكوم”، وعلى هذا الأساس يرفض بشارة فكرة تركيز التعريفات الرائجة على أن أهم مكونات نشوء الدولة الحديثة هي السيادة على الأرض والسكان واحتكار العنف الشرعي والتشريع، وهو بدلاً عن ذلك يؤكد على أنه لم يعد ممكناً “تعريف الدولة من دون المواطنة”، ويضيف “إن تحوّل الشعب من كونه جميعاً من رعايا الحاكم إلى مواطنين في دولة، هو من أهم مميزات الدولة الحديثة”.

تظهر الدولة الحديثة في البداية بوصفها “مجالاً عمومياً” في مقابل “المجال الخاص” الذي يشمل الحياة العائلية والمنزلية والعلاقات الاقتصادية بين الأفراد، لكن مفهوم المجال العمومي للدولة الحديثة توسّع كما يشير بشارة بظهور “فضاء عمومي خارج المؤسسات الرسمية” يتكّون من المؤسسات المدنية والنقابات والرأي العام والجمعيات على سبيل المثال لا الحصر، وفي مقابل هذا التوسّع عملت القوانين الليبرالية على احتضان “المجال الخاص للفرد وخياراته” من تدخل السلطات والجماعات غير الرسمية، إذ إنه “مثلما أن الدولة لم تعد ملكية الحاكم، فإن العائلة أيضاً لم تعد ملكية الرجل”، وهو ما يقودنا إلى أن “عملية التأثير في أي بنية اجتماعية هي، في الوقت ذاته، عملية تأثّر، وفعل التغيير هو أيضاً فعل تغيّر”.

في المقارنة مع نشوء الدولة الحديثة في أوروبا، يحيل بشارة نشأة دول عربية إلى أسس مختلفة، منها “ما فُرِض بالتفاعل بين الحركات الوطنية والتقسيمات الاستعمارية”، ومنها “الموروث عن العهد العثماني”، وأخيراً “ما كان قائماً في مراحل مبكرة من العصر الحديث” نتيجة تفاعلها مع الدولة الأوروبية في مرحلة الوصاية الاستعمارية، وعلى عكس معنى الدولة القديم لم تنشأ أي من الدول العربية المعاصرة “نتيجة لتغلب عصبية على غيرها، عدا بدايات المملكة العربية السعودية في نجد القصّية التي لم يشملها الاستعمار”، وبهذا “أصبحت الدولة تحديداً هي المؤسسة التي تمنع دور العصبيات وتداولها على الحكم”، وبدلاً من ذلك قامت الدول العربية “بتوليد عصبيات” من أجل ترسيخ حكمها، ولجأت إلى “ولاءات مباشرة وقواعد اجتماعية متينة ومتراصة”.

يبدأ الفصل الثاني بالإشارة إلى أن نشوء العلوم السياسية وعلم الاجتماع ما تسبّب بانفصال النظرية السياسية عن الفلسفة السياسية بعدما كانا شيئاً واحداً حتى القرن الـ19، حيثُ أصبحت النظرية السياسية “تتوق إلى أن تكون جزءاً من [العلوم الاجتماعية]”، وللنظرية السياسية نوعين “علمية إمبريقية (فلسفة تجريبية) وعقلانية معيارية”، ويرى بشارة أن كلا النوعين يتأثر بالفلسفة السياسية وتشخيصها للقضايا، ويضيف أن “العقلانية المعيارية هي عموماً أكثر من العلمية الإمبريقية ارتباطاً بالفلسفة، ويمكن القول إنها متفرعة منها”، وعلى هذا الأساس عند دراسة “نظرية الدولة” فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه “تقع نظرية الدولة بين الفلسفة الأخلاقية والبحث العلمي التاريخي والإمبريقي، ويجب أن تستفيد منهما”.

وفي هذا الخصوص يستند بشارة إلى أربع مقاربات في نظرية الدولة، يمكن تلخيصها بـ”الماركسية الطبقية، الليبرالية، المؤسسية الفيبرية، القومية”، ويمكننا أيضاً إضافة “ما يمكن اعتباره مقاربات سوسيولوجية نخبوية في خصوص الحكم في الدولة”، وإذا أردنا مناقشة المقاربة الليبرالية نجد أن المنظرين الليبراليين يتجنبون مناقشة الدولة بما هي دولة، وبدلاً من ذلك يذهبون لمناقشة نظرية الدولة الليبرالية، بالعموم “لا توجد نظرية ليبرالية في الدولة مجردة من النظام السياسي، بل توجد نظرية في الحكم في ظل اقتصاد السوق الرأسمالي”، وبهذا المعنى فإنه ليست الليبرالية “مجرد نظرية معيارية في الحكم، بل إنها تقوم أيضاً على نظرية معيارية في المجتمع”.

تعيد الأطروحة نشأة الدول جميعها تاريخياً إلى الجماعات وليس الأفراد، أما استنباطها نظرياً من أفراد بوساطة العقد الاجتماعي فهو “نموذج نظري عائد إلى بداية العصر الحديث، هدفه التوصل إلى نتيجة محددة بشأن طبيعة الدولة والمواطنة فيها، وعلى فرضياته بُنِيَت نظريات معيارية”، ومن هذا الجانب تكون مقولات نيقولا ميكافيلي في هذا الشأن “أكثر واقعية من نظريات العقد الاجتماعي من ناحية تصوير المنشأ التاريخي للدولة من جماعات، لكن مقولاته لا تؤسس لنظرية”، لذا يمكن اعتبار أن وجود سلطة مركزية أو رئاسة وحيدة لمجتمع ما من علامة بدايات الدولة، وهنا يصح القول إن “الدولة الحديثة ليست دخيلة على التاريخ الإنساني، بل تطورت تدريجياً من ظواهر قائمة”.

كانت نشأة الدولة الحديثة من “تمركز السلطة وتمفصلها، أي تمايز وظائفها، وتحوّلها إلى دولة إقليمية ذات حدود ترابية”، وكان توحيد التشريع بصورة قوانين من أهم عناصر تشكّلها، إضافة إلى نشوء الجيوش الوطنية النظامية، وأجهزة الدولة الحديثة، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن التمايز الأول للدولة يكون برسم الحدود، والثاني يكون من المجتمع، وذلك حين “تتضح ملامحها بوصفها مؤسسة حاكمة وجهازاً بيروقراطياً يزعم تمثيل الشعب كله وتجسيد هويته والاسترشاد بالمصلحة العامة للمجتمع كله”.

عزمي بشارة

ملاحظات حول العلاقة بين نظرية الدولة والعقد الاجتماعي

تعتبر بدايات التنظير للدولة ذات غايات علمية في نهاية العصر الأوروبي الوسيط، والتي جاءت مع نشوء فئة القانونيين والسياسيين والمستشارين، وتمثلت غايتها في الدفاع عن الملك في مواجهة الكنيسة من جهة، والأمراء المحليين من جهة أخرى، ويصف بشارة هذه البداية بـ”المعيارية” لأنها كانت لمصلحة الدولة. كما يمكن اعتبار مفكري العقد الاجتماعي منظرين للدولة “لكنهم في الحقيقة يقومون بعملية “إنتاجها” نظرياً، لتبرير وجود الدولة بصيغة معينة”، ومن الممكن ان تكون نظرية الدولة “كامنة في المقاربة الفلسفية في العقد الاجتماعي التي تستنتج الدولة نظرياً من صفات البشر وضرورات الاجتماع الإنساني”، هكذا فإن نظريات العقد الاجتماعي لا تؤسس للدولة عموماً “بل تقوم عبر ذلك باستنباط ما يفترض أن تكون عليه الدولة، أو تبرر نشوء نظام حكم بعينه في مرحلة تاريخية معينة”.

يعطي بشارة في الفصل الرابع “ملاحظات حول العلاقة بين نظرية الدولة والعقد الاجتماعي” مطرحاً لمناقشة نظرية الدولة عند مفكري العقد الاجتماعي، بما فيهم توماس هوبس، جان جاك روسو، وجون لوك، وهو يصل في نهاية المطاف إلى أنه “نشأت نظريات العقد الاجتماعي المبكرة بوصفها جهداً أيديولوجياً، وليس نظرياً فحسب، وذلك لتأسيس شرعية الدولة وسيادتها”، نافياً أن يكون روسو قد أسس لفكرة المساواة بين البشر، أو أن يكون لوك قد أسس لفكرة الحرية، لأن الفكرتين كانتا قائمتين لدى مفكرين وثوار عبر التاريخ، وهم بدلاً من التأسيس للفكرتين “نظروا إليهما في سياق تفلسفهم بشأن الدولة”.

يخصص الفصل الخامس لمناقشة مفهوم فلسفة الدولة عند فريدريش هيغل، وهو يمهد لذلك بالإشارة إلى أن أهمية فلسفة هيغل في الدولة تأتي من كونه الفيلسوف الغربي الوحيد منذ أرسطو حتى عصره الذي أفرد للدولة حيزاً واسعاً ضمن منظومة فلسفية شاملة، إضافة إلى تأثره بتيارات كثيرة ومتعارضة بها، واعتبار “هيغل” الليبرالية هي الممثل الأشد تأثيراً لفلسفة الدولة، إذ إن هيغل يتعامل مع “فكرة الدولة قبل تجلياتها في الواقع، ولا يحاول فهمها بإنتاجها نظرياً بافتراض تعاقد بين أفراد، ولا يبحث في منشئها التاريخي، بل يقدم تأملات فلسفية في جوهرها”، ومن هذا المنطلق جاء نقد هيغل لفكر التنوير، ولا سيما إيمانويل كانط، وفي نقد فكرتَي الحرية والأخلاق الموجَّهتين إلى المجتمع وعظياً من خارجه، والبحث في تطورهما من خلال التطور الاجتماعي التاريخي نفسه.

فالدولة عند هيغل لا تفهم بوصفها تجسيداً لعقد اجتماعي “بل هي تجسيد للأخلاق، فهي تطوّر أرقى لمفهوم الأخلاق العمومية وتجسيد لها في مؤسسة قادرة على تمثيلها وتطبيقها”، و”الجوهر الأخلاقي” عند هيغل “لا يوجد في قانون صوري”، مثل قانون كانط الأخلاقي بشأن الواجب، وتصرف الفرد بموجب ما يصلح أن يكون قانوناً للإنسانية، إنما “يجده في حياة المجتمع الأخلاقية من العائلة، مروراً بالمجتمع البرجوازي (أو المجتمع المدني)، وصولاً إلى الدولة”، ومن هنا نقرأ اختلاف هيغل مع أفكار الحق الطبيعي والقانون الطبيعي، والمقاربات الرومنطيقية السابقة عليه، صحيح أن هيغل لم يكن معادياً لفكر التنوير، لكنه “اعتبره مرحلة في تقدم الفكر وليس خاتمة”.

وعلى عكس هيغل الذي يقول بوجوب إخضاع الدولة المجتمع لمنطقها، فإن كارل ماركس يقول بوجوب إخضاع الدولة للمجتمع، وبحل الدولة في المجتمع يصبح الإنسان المتحرر من الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي “مستبطناً للعموم، في خصوصيته، حيث يصبح العام قائماً في الخاص، وليس مفروضاً عليه من خارجه”، ولذلك نجد “أن هيغل أكثر واقعية من ماركس الشاب في نظرته إلى الدولة، ليس فقط بوصفه كائناً، بل حتى في ما يتعلق بما يمكن أن يكون في المجتمع الواقعي”.

يذكّر بشارة في الفصل السادس بوجود دراسات متخصصة في الفرق بين التقليد الدولاني (أي أن السلطة السياسية للدولة تتسم بالشرعية إلى حد ما) في فرنسا وألمانيا من جهةـ  والتقاليد السياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، حيث تتعامل التقاليد الدولانية مع العلاقات السياسية من زاوية “أكثر معيارية وأقل منفعية”، وهي تتجنّب المقاربة الاقتصادية، ولا ترى المصلحة العامة بوصفها مجموع المصالح الخاصة فقط، إضافة إلى إصرارها على أن الدولة كيان قائم بذاته ومتميز عن المجتمع، بينما تتميز التقاليد السياسية “بقوة التعددية والتمثيلية”، وتقاليد الحوار والمحاجّة في الثقافة السياسية، و”نظرة أداتية للحكم، ومفهوم براغماتي للسياسة، وتحليل اقتصادي لها”، وتؤكد الاستمرارية التاريخية للدولة، ويرى بشارة أن في كلا التقليدين دولاني أم ليبرالي تأكيد على “الكيانية الواحدة”.

وفي هذا الجانب الخاص بالنقاش الحاد بشأن وجود كيان هو الدولة والسيادة، وهو نقاش لا يتفق التعدديون معه، فقد ظهر منظرو نظرية التعددية الذين عارضوا توسّع مؤسسات نفوذ الدولة في المجتمع منذ نهاية القرن الـ19 وحتى ثلاثينيات القرن الـ20، ودافعوا في نظريتهم “عن الروابط الاجتماعية القائمة، ولا سيما الروابط الطوعية، من خلال معارضة مفهوم السيادة”، ويمكن اعتبار التعددية عموماً وفقاً لأطروحة بشارة الراهنة “اعتراضاً على نظرية السيادة التي تمنح الدولة سلطات غير محدودة، وتحذيراً من مخاطرها”، وفقاً لهارولد لاسكي، أحد منظري التعددية، فإن “أي مجتمع هو في الحقيقة فدرالية من الجماعات”، أي أنها “جماعات سيادية”، لكن بشارة يرى عكس ذلك، لأن “الأصل في مصطلح السيادة هو أنه مصطلح قانوني”، وأن جميع الأمثلة التي ساقها لاسكي بخصوص الروابط والاتحادات “ليست ذات سيادة قانونياً، بل ربما فقط [سيادة معنوية]، بحيث لا يفترض أن تكون سيادتها قانونية على الأرض والسكان.

مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المفكر العربي عزمي بشارة، الدوحة، 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 (لقطة شاشة/ يوتيوب)

في السيادة والمواطنة والفرق بين الأمة والقومية

يعالج الفصل السابع “في السيادة” مصطلح السيادة الذي يثير تداعيات متعلقة بالسلطة العليا أو النهائية في سياق اجتماعي، وظهر المصطلح لأول مرة في نهاية القرن الـ13 وبداية القرن الـ14، وكان في بداية ظهوره يتعلق بإصدار المراسيم والقوانين وجباية الضرائب، وبعدها بدأ المصطلح يقترب من السلطة، ويوضح هذا الفصل أن فكرة السيادة هي الدولة لا الإمبراطورية، فمصطلح السيادة في الدولة يعني عدم قبولها بوجود مصادر تشريع من خارجها، إضافة إلى تأكيد هويتها القومية، ورفضها مشاركة السيادة مع حكّام أقاليم بعيدة، بهذا المعنى يكون “معيار السيادة في الدولة الحديثة هو احتكار التشريع على أرض وسكان (سواء أكانوا مواطنين أم غير مواطنين)، ومعنى سيادة الدولة على الأرض هو سريان قانونها على هذه الأرض، ومن ثم على السكان الذين يعيشون عليها”.

وهو يرى أنه في حال كان الحق الحصري في التشريع على إقليم وسكان هو جوهر السيادة، فإنه “يستدل من ذلك على أن السيادة تعبر عن نفسها، أو تنطق بلغة القانون، ومن ثم فإن التعبير المحض عنها هو سيادة القانون”، وفي الدولة الحديثة يفترض أن “يتكلم صاحب السيادة بلغة القانون. وفيها يكون التشريع موجهاً إلى المؤسسات والأفراد”، ومن زاوية أن السيادة تتكلم بلغة القانون، يرى بشارة أن “لا شيء يتغير في هذه الحقيقة إذا اعتبر الشعب مصدر السيادة أم لا، وإذا كانت السلطة التي تمارس السيادة باسم الدولة (وباسم الشعب أيضاً) منتخبة أم لا”، وهو يضيف في مطرح آخر بخصوص سيادة الشعب أن “سيادة السلطات باسم الشعب ليست مطلقة، بل مقيّدة بحدود دستورية وقوانين”.

أما الفصل الثامن فهو يناقش عدم انطلاق ماكس فيبر في تعريفه لمصطلحي الدولة ومسألة الشرعية من فكرة الدولة، بل من سمات بنيوية للدولة الحديثة، مميزاً بين منظمة سياسية مسيطرة ودولة على أساس نجاح الدولة باحتكار العنف، فالدولة المقصودة هنا هي تنظيم حديث، وهنا أقتبس عن بشارة قوله: “في الحداثة، لا بد من تمييز مؤسساتها من بقية المؤسسات التي يمارس فيها شكلاً من أشكال السيطرة، وذلك باحتكار التشريع والعنف الشرعي، والسلطة المركزية العليا على إقليم وسكان، والجهاز البيروقراطي، وأخيراً، وربما أولاً في عصرنا، المواطنة”، التي يرى أنها “الوجه الآخر للسيادة”، وفي مقابل فيبر قام إميل دوركايم بتعريف الدولة بأنها أرقى أشكال المجتمع المنظم الموجودة، وأن لها وظيفة أخلاقية “فهي لسان حال التفكير الاجتماعي”، ومن هنا نجد أنه بينما شدد فيبر على “وظيفة الدولة الإكراهية”، فإن دوركايم ركّز على “الوظيفة الإدارية للدولة في تنظيم الخلافات والصراعات”.

يخلص بشارة في قراءته لمسألة الشرعية إلى أنه ثمة عنصران أساسيان في فاعلية القوة، أولاً “شعور الخوف من القوة نتيجة لاستخدامها”، وثانياً “تكريس احترام القوة”، ويرى أيضاً أن الشرعية قد تكون قومية وقد تكون وطنية في مجتمعات متعددة الإثنيات، وهو ما يقوده إلى وضع بعض التمييزات اللازمة لوضع الشرعية في السياق، أولاً “ثمة قضية متعلقة بشرعية الدولة عموماً ذات علاقة بالإجماع على سيادتها على إقليم وسكان”، ثانياً تعني الشرعية “مبادئ دستورية (مكتوبة أو غير مكتوبة) وقوانين”، ثالثاً “يعني مبدأ احتكار الدولة العنف الشرعي، أنه لا يجوز لقوى أخرى استخدامه داخل حدودها وعلى مواطنيها”، رابعاً “ثمة محددات أخرى للشرعية في المرحلة المعاصرة، مثل احترام حقوق الإنسان والشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني وغيرها”.

يفرد صاحب “مقالة في الحرية” الفصل التاسع “السيادة والمواطنة” للتأكيد على أنه لا وجود لدولة حديثة من دون مواطنة، على الرغم من أن جذورها لم تكن في الدولة الحديثة، بل في المدن الحرة غير التابعة مباشرة للملوك، وأصبحت في الحداثة الصفة العامة للسكان، وليست امتيازاً تمتلكه أقلية، وهو يرى في هذا الخصوص أن “المواطنة هي البعد الآخر للسيادة”، وذلك على وجهين، الأول “المواطن الذي تمارس السيادة عليه هو جزء منها، وعضو في الهيئة التي تمارسها”، والثاني “المواطنة هي حقوق للمواطن وواجبات عليه، وحقوق للدولة وواجبات عليها”، معيداً فكرة المواطنة الحديثة إلى مدن العصر الوسيط الحرة، وهي تختلف عن المواطنة الليبرالية الحديثة “التي تعد عضوية في الدولة، بغض النظر عن حجمها”، بما يشمل على التوالي الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية.

وفي نقاشه للوجة الآخر للسيادة، يشير بشارة إلى أنه خلافاً للدول القديمة، تسري الدولة الحديثة على أرض محددة بحدود سياسية، أي أقليم ترابي، وقاطني الأرض، وتعد السيادة الإقليمية الترابية من مميزات الدولة الحديثة، وينظر بعض الباحثين إلى البُعد الترابي أنه الأهم والأكثر تحديداً لسيادة الدولة الحديثة، وهي نظرة غير دقيقة، ولم تعد كافية بالنسبة لبشارة، لأن “مصطلحات غامضة، مثل سيادة الشعب، لا تفي بالغرض؛ إذ لا تسدّ النقص، ولا تدخل في تعريف الدولة، بل في التأسيس لطبيعة لنظام الحكم”، لذلك يرى أن “سكان الدولة المعاصرة ليسوا موضوع سيادة فحسب، ولا جماعة سيادية تسمى أمة سيادية فحسب، بل هم مواطنون أيضاً”، كما أنه لا يعتبر الديمقراطية شرطاً للمواطنة لأن “المواطنة هي وضعية الفرد القانونية في الدولة الحديثة”، لذا فإن المواطنة هي شرط الديمقراطية.

مناهج

الدولة ونظام الحكم

في الفصل العاشر يميز “بشارة” بين الدولة ونظام الحكم، فإذا أخذنا منظومات الحكم ما قبل الحديثة، بما فيها الملكية والإمبراطورية والإمارة، فنحن هنا نقصد طبيعة الدول ذاتها، أما التصنيف الراهن للدول من ديمقراطية إلى سلطوية وشمولية، فيقصد به النظم السائدة في هذه الدول، بينما تعود أحاديث وصف الدول بالرأسمالية والاشتراكية إلى طبيعة اقتصاد تلك الدول، وتختلف الدولة الحديثة عن نظام الحكم من ناحية العناصر الأساسية لاستمراريتها، وهي: البيروقراطية المركزية، الحدود الترابية المستقرة، الجيش النظامي، سيادة الدولة وولايتها القانونية، والاقتصاد الوطني والمواطنون، وهي جميعها من مكونات نشوء الدولة الحديثة، إذ إنه “لا دولة من دون نظام حكم، ولا نظام حكم من دون دولة، لكن أصبح ممكناً أن يتغيّر نظام الحكم من دون تغيُّر بعض مؤسسات الدولة، وأن تتغير حدودها السكانية والجغرافية، وكذلك اعتراف الآخرين بها”.

يقدم الفصل الأخير “الدولة بين الأمة والقومية” قراءة نقدية بشأن استخدام المصطلحين، ويشير بشارة في البداية إلى عدم تمييز الباحثين بين مصطلحي بناء الأمة وبناء الدولة باعتباره أمراً واحداً “مع أن هذا مثل التمييز ضروري”، لأنه “لا تكفي عملية بناء مؤسسات الدولة لتسجيل النجاح في بناء الأمة؛ فقد يتعثر الأخير ويفسد بناء مؤسسات الدولة”، كما أنه إذا كانت عملية بناء الأمة متعثرة أو ذات طابع طائفي أو إثني قومي “فإنه يصعب على الدولة بناء الأمة”. ويستغرب بشارة في هذا الفصل الخطاب الثقافي السائد في الغرب بإسقاط النقد القومي الأكاديمي المعاصر على حاضر المنطقة العربية، فهو يرى أن تشكّل الدولة الحديثة الأولى لم يكن بسبب ما سبق ذكره من مجموعة العوامل، بل سهّل ذلك أيضاً “تشكيل المشترك بين السكان وتشكّله، وبينهم وبين الحكّام”، وهو يقصد هنا تشكيل التجانس الثقافي قبل ترسيخ المواطن، فقد “كانت غالبية الدول الأوربية الغربية ضالعة في عمليات دمج وتشكّل قومي، بأيديولوجيا قومية صريحة أو من دونها”، لذا نجد أنه إذا كان دور القومية حاسماً في نشوء الدول، فإن “المواطنة مكّون ضروري من مكّونات مفهوم الدولة المعاصرة”.

وهو يقترح في هذا الشأن أن يكون الاستخدام المعاصر لمصطلح الأمة “هو الأمة بوصفها مجموع المواطنين”، لأنه بهذا المعنى يكون “للأمة بعدٌ سيادي يتعلق بالدولة، وفي الوقت ذاته تختلف عن القومية التي تضفي طابعاً ثقافياً  – سياسياً على الإثنية، يتمثّل في الثقافة القومية والتوق إلى تقرير المصير في كيان سياسي، أي أن تصبح أمة”، وحالما تصبح القومية أمة فإنه “يتبدى التوتر القائم في المفهوم ويدفع إلى توسيع نطاق الأمة التي تستند إلى قومية، حيث تشمل جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الأخرى”، وعندما تؤسّس الدولة القومية يبدأ ظهور الفرق بين الانتماء إلى الدولة والانتماء إلى الجماعة، وحينها تتجه الدولة إلى مسارين “إما الانغلاق على قومية بوصفها أساس العلاقة مع الأفراد والجماعات، وإما اعتبار أن الأساس هو المواطنة والوطنية”.

يقدم عزمي بشارة في منجز “مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات” قراءة تفكيكية وتحليلية من جهة، ونقدية من جهة أخرى لنظرية الدولة الحديثة، وإشكاليات المصطلح، مبيناً أن الانشغال بالدولة بصفتها كياناً قائماً بذاته، من دون تاريخها وطبيعة نظام الحكم فيها “ينتج تعريفات مجردة ضامرة للدولة”، كما أنه يؤكد على تجاوز المواطنة الهوية القومية باعتبارها “المكّون الرئيس للأمة ذات السيادة في دولة”، إضافة إلى معالجته بتوسّع فلسفة الدولة ونظرياتها، بما في ذلك الفرضيات بخصوص طبيعة البشر التي بُنيت عليها.

 

 



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى