سوريا

رحلة ابن فضلان بين الحقيقة والخيال والوهم (2 من 2)


لم يكن د. غيبة الكاتب العربي الوحيد الذي أوقعه كرايتن في هذا الوهم. فعلى خُطا د. غيبة أصدر الشاعر المغربي أحمد عبد السلام البقالي عام 2003 كتابًا بعنوان «مغامرات سفير عربي في إسكندنافيا منذ ألف عام» جمع فيه رسالة ابن فضلان (بتحقيق د. سامي الدهان) ورواية كرايتن الخيالية. وقد وقع في الخطأ نفسه الأكاديمي الفلسطيني د. أحمد أبو مطر الذي نشر على موقع إيلاف الإلكتروني مقالتين تتناولان رحلة ابن فضلان الحقيقية والمتخيلة! ولعل هناك آخرين وقعوا أيضًا في الوهم ذاته.

يقول كرايتن في خاتمة طبعة 1992 إن فكرة رواية «أَكَلة الموتى» وُلِدت سنة 1974 حين سمع أحد أصدقائه يقول إن ملحمة بيوولف الأنغلوساكسونية ملحمة مملة لا يقرؤها إلا طلاب الجامعات، ليس بمحض اختيارهم بل لأنها متطلَّب جامعي. ولذلك أراد كرايتن أن يتحدى صديقه ويثبت له العكس، فعاد إلى البيت وبدأ بتدوين ملحوظاته. لقد أراد كرايتن أن يعيد إنتاج ملحمة بيوولف ويرد الاعتبار للڤايكنغ الذين يُنظر إليهم في أوروبا على أنهم قومٌ همج، وذلك بسبب تاريخهم الحربي. ولهذا اتكأ على رسالة ابن فضلان لتحقيق هذا الهدف، حيث يقول إن رسالة ابن فضلان تمثل شاهد عيان على قيم الڤايكنغ وشجاعتهم، إلخ. ولهذا السبب جمع بين شخصيتي ابن فضلان وبيوولف (الذي سمّاه بوليويف على لسان ابن فضلان) في روايته. ولاختيار كرايتن لشخصية ابن فضلان دلالة، حيث جعل شاهدَ عيانٍ من حضارة العرب المسلمين المتفوقة في ذلك العصر يشهد على قيم الڤايكنغ.

يُسهِب كرايتن في شرح أهدافه من كتابة الرواية على النحو التالي:

بطبيعة الحال، كان هدفي من كتابة الرواية هو أن أخلق فانتازيا خاصة بي. لكن الفانتازيا بكل أنواعها تتطلب منطقًا صارمًا، وقد أربكني المنطق الكامن وراء ما كنت أريد أن أكتبه. وبما أن الباحث الحقيقي لا يستطيع أن يفعل ما كنت أنوي القيام به، فقد وجدت أنني لا أستطيع أن أدّعي في كتابتي أنني قد فعلت ذلك. لم يكن هذا نقصًا في الخيال ولا وهنًا في العزيمة. بل كانت مشكلة عملية بحتة. فمثل الباحث، لم يكن لدي أي أساس أقرر بموجبه ما هي العناصر التي يجب أن أحتفظ بها في قصة بيوولف وما هي العناصر التي يجب أن أطرحها.

تُرى كيف ستبدو الرواية الناتجة؟ تخيلت أنها قد تكون رواية مملة نوعًا ما عن معارك قد وقعت منذ أكثر من ألف سنة. في الواقع، ساورتني شكوك أنها قد تشبه معظم روايات شهود العيان عن الأحداث الشهيرة، كما كتبها أناس لا يدركون أهمية الأحداث التي يَرَوْنَها.

وفي نهاية المطاف، أدى هذا التفكير إلى حل مشكلتي. إذن، كنت أريد رواية شاهد عيان. وهذه الرواية لم يكن بوسعي استخلاصها من قصة بيوولف القائمة، ولم أكن راغبًا في اختلاقها. كان ذلك هو مأزقي. ولكن في مرحلة ما، أدركت أنه ليس لزامًا عليَّ أن أختلقها، بل يمكنني أن أكتشفها فحسب.

***

لنفترض أن مراقبًا معاصرًا قد حضر هذه المعارك، وكتب رواية للأحداث التي تحولت لاحقًا إلى قصيدة. لنفترض أيضًا أن هذه الرواية موجودة سلفًا، لكن لم يعترف أحدٌ بها على أنها كذلك. وإذا كان الأمر كذلك، فليس لزامًا عليَّ أن أختلق أي شيء. بل بإمكاني أن أعيد إنتاج قصة شاهد العيان، وأن أشرحها في الحواشي للقارئ. لقد ساعدتني فكرة المخطوطة الموجودة سلفًا على تجاوز المعوقات المنطقية التي أعاقتني من قبل، لأن المخطوطة التي يُعثَر عليها لن تكون من إبداعي – حتى وإن كنت سأختلقها.

تُرى، ما هو السرد الذي يُرغَب فيه أكثر من غيره؟ خلصت إلى أن أنفع رواية هي التي يكتبها غريب من خارج الثقافة، ويمكنه أن يقدم تقريرًا موضوعيًا عن الأحداث كما حدثت. ولكن من سيكون هذا المراقب الخارجي؟ ومن أين سيأتي؟

وحين تأملتُ الأمر أدركتُ أنني أعرف سلفًا من هذا الشخص. في القرن العاشر، كان العربي ابن فضلان قد سافر شمالًا من بغداد إلى ما يُعرف بروسيا اليوم، وهناك التقى الڤايكنغ. وتُعَد مخطوطته، التي يعرفها الباحثون، واحدةً من أقدم روايات شهود العيان عن حياة الڤايكنغ وثقافتهم. حين كنت طالبًا جامعيًا، كنت قد قرأت أجزاء من المخطوطة. كان لدى ابن فضلان صوت وأسلوب متميزان. وهو قابلٌ للتقليد والتصديق. كان كاتبًا مدهشًا. وبعد ألف سنة، شعرت بأن ابن فضلان لن يمانع في إسناد دور جديد له، أي، أن يكون شاهدًا على الأحداث التي أدت إلى قصيدة بيوولف الملحمية.

مع أن مخطوطة ابن فضلان الكاملة قد تُرجمت إلى الروسية والألمانية والفرنسية والعديد من اللغات الأخرى، لم تُترجم إلا أجزاءٌ منها إلى الإنجليزية. حصلتُ على جُذاذات المخطوطة الموجودة ودمجتها مع تعديلات طفيفة فقط في الفصول الثلاثة الأولى من رواية «أَكلة الموتى». ثم كتبت بقية الرواية ناسجًا على منوال المخطوطة كي أنقل ابن فضلان إلى بقية رحلته الخيالية الآن. كما أضفت تعليقات وحواشي فيها الكثير من الحذلقة.

كنت أدرك أن رحلة ابن فضلان التي قام بها عام 921 م قد لا تصلح من الناحية التاريخية لتكون أساسًا لملحمة بيوولف، والتي يعتقد العديد من الباحثين الثقات أنها كُتبت قبل مئة وخمسين عامًا قبل رحلة ابن فضلان. ولكن تحديد تاريخ القصيدة الملحمية بدقة غير مؤكد، ولا بد للروائي أن يصر على حقه في التصرف بالحقائق.

تحتوي رواية «أَكلة الموتى» على العديد من المفارقات التاريخية المكشوفة. وبينما كنت أكتب، كنت أشعر بأنني قادر على رسم الخط الفاصل بين الواقع والخيال بوضوح. على سبيل المثال، أحد المترجمين الذين استشهدتُ بهم، واسمه پير فراوس دولوس، يعني اسمه حرفيًا باللاتينية “بالغش والخداع.” ولكن بعد بضع سنوات، لم أعد متيقنًا أي النصوص حقيقي وأيها مختلَق، حتى أنني وجدت نفسي ذات يوم في مكتبة بحثية أحاول إيجاد بعض المراجع في مسرد المراجع في نهاية روايتي، واستنتجت أخيرًا، وبعد ساعات من الجهد المحبط، أنه مهما بدت هذه المراجع مقنعة، فلا بد أن تكون وهمية.

يحاجُّ بعض الأكاديميين اليوم بأنه لا يوجد فرق بين الواقع والخيال، وأن كل المناهج المتبعة في قراءة النصوص تعسفية وشخصية، ولذلك فإن الاختلاق المحض صحيح كما البحث الشاق. وفي أفضل الأحوال، يتجاهل هذا الموقف الانضباط العلمي التقليدي؛ في أسوأ الأحوال، هذا موقف سيئ وخَطِر. ولكن هذه الآراء الأكاديمية لم تكن سائدة قبل عشرين عامًا حين جلست لكتابة هذه الرواية التي ترتدي قناع الدراسة العلمية، والموضات الأكاديمية قد تتغير من جديد، ولا سيما إذا وجد الباحثون أنفسهم يطاردون حواشي وهمية، كما فعلتُ.

***

وهكذا يجعل كرايتن مستشرقه المتخيَّل يقرأ كل نسخ مخطوطة ابن فضلان وترجماتها باللغات العربية واللاتينية والألمانية والفرنسية والدانمركية والسويدية والإنجليزية، ويعمل على هذا من سنة 1951حتى وفاته سنة 1957. والحقيقة أن سنة 1951 هي السنة التي بدأ فيها د. سامي الدهَّان تحقيق مخطوطة مشهد ومقارنتها مع «معجم البلدان» لياقوت الحموي الذي يذكره كرايتن أيضًا. يُثني كرايتن على العرب بقوله إنهم كانوا يعون الفروق الثقافية بين الأمم.

في رواية «أكَلَة الموتى»، يقع الاختيار على ابن فضلان للذهاب في مهمته الدبلوماسية لأنه كان قد وقع في غرام زوجة تاجر بخيل اسمه ابن قرين، فوسوس هذا التاجر للمقتدر لكي يُبعده عن زوجته. وهكذا يكون مسار الرحلة على النحو التالي: بغداد » بلاد الفُرس » بلاد التُّرك » الروس » الدانمرك. في حين أن مسار الرحلة التاريخي هو: بغداد » بلاد الفُرس » بُخارى » خوارِزم » الجُرجانية » الغَزِّية » البجناك » الباشغرد » الصقالبة » الرَّسِّيَّة » الخزر.(4) وليس للرحلة أصلًا علاقةٌ بأمور الغرام، كما أن ابن فضلان لم يتجاوز في أسفاره بلاد الصقالبة البلغار، ناهيك من لقائه بالبطل الملحمي بيوولف. وهكذا نرى أن ابن فضلان قد أُجبِر على تغيير مسير رحلته بسبب العَرّافة التي اشترطت أن يكون المحارب الثالث عشر من غير أهل الشمال كي تنجح مهمة القائد بوليويف في إنقاذ مملكة روثغار. ونرى أن حسن م. يوسف تبنى مسار الرحلة كما رسمها كرايتن في روايته، كما تبنى منه أيضًا سعي التاجر ابن قرين لدى الخليفة المقتدر لإبعاد ابن فضلان عن ابنته (وليس زوجته كما عند كرايتن) التي لم يعد راغبًا في تزويجها له لأن والد هذا قد خسر تجارته في البحر وربما فُقِد أيضًا هو نفسه.

ولما كان هدف كرايتن هو إعادة الاعتبار إلى بيوولف والڤايكنغ، فهو لا يذكر من التراث الأدبي العربي سوى قصة حذاء أبي قاسم الطنبوري وطُرفة عن أحد الظرفاء الذي اندس بين النساء في المسجد ليسأل امرأة أن تمد يدها إلى عانته لترى إن كان طولها متوافقًا مع تعاليم الإسلام كما شرحها خطيب المسجد. أما في مسلسل «سقف العالم» فهناك مقارنة دائمة ترمي إلى إبراز التفوق الحضاري العربي الإسلامي بشقيها المشرقي في بغداد والمغربي في الأندلس. في الشق المشرقي الشاهد هو ابن فضلان نفسه، وفي الشق المغربي يكون الشاهد هو النبيل الدانمركي هيرمُد الذي زار قرطبة وتعلم الكثير عن حضارة العرب وبراعتهم في الطب. ولذلك ليس من الغريب أن يتزوج ابن فضلان ڤِبكي، ابنة هيرمُد، الطبيبة الوحيدة لدى الدانمركيين، وهي صِنْوُ ابن فضلان في الثقافة والمعرفة.

لكن مسلسل «سقف العالم» لا يخلو من تسليط الضوء على التنافر الثقافي بين الشرق والغرب. في إحدى الحلقات المبكرة يسيء المحاربون الشماليون إلى ابن فضلان حين يتحدثون عن أمه بالسوء، ظنًّا منهم أنه لا يفهم لغتهم، فيرد عليهم وبلغتهم أن أمه امرأة عفيفة ومن أسرة شريفة. يدهشهم أنه تعلم لغتهم بسرعة، ثم ينبهرون بمهاراته في الفروسية، مع أنه ليس محاربًا ولا فارسًا في الأصل. ولابن فضلان الفضلُ في الكشف عن حقيقة الشر الذي لا يسمى أو وحوش الضباب. فهم بشر حقيقيون يلبسون جلود الدببة، وليسوا كائناتٍ خرافيةً كما توهم الشماليون. وهنا تتجلى عقلانية الإنسان العربي التي تدحض خرافة الغربيين. وهناك تلميحٌ لطيفٌ في المسلسل: لا يمكن هزيمة الشر إلا بوجود عنصر من خارج الثقافة، ولا بد من تضافر الشرق والغرب لمواجهة الأخطار. ومن محاسن المصادفات أن هذا العنصر رجل عربي. وشيئًا فشيئًا، يقبل الشماليون ابن فضلان، فأحد المحاربين يبدأ يناديه “أخي الأصغر.” كما تنشأ علاقات مودة بين ابن فضلان وزملائه. وحين يحاول الأمير وِغلِف، ابن الملك روثغار، الغدرَ بابن فضلان بطعنه في ظهره، يعاجله المحارب هيرغَر بطعنةٍ تُرديه قتيلًا أمام أبيه روثغار وأمه وأخته، ولا أحد يمتعض لهذا الجزاء العادل. كذلك نجد أن بوليويف يطمع في أن يكتب ابن فضلان، الذي يعرف كيف “يرسم الأصوات” (أي الكتابة)، عن بطولاته للأجيال القادمة، وكذلك يطلب القبطان إكثِغو من ابن فضلان أن يكتب عنه إن مات في المعركة الأخيرة مع الڤاندالز (الوِندول عند كرايتن). فرسمُ الأصوات، برأي هؤلاء الشماليين، يجعل الأشياء تعيش للأبد بدلًا من أن تتلاشى في الهواء. كما يعبر الملك روثغار عن امتنانه لابن فضلان الذي جاءه ليبشره بالنصر الذي قاده الزعيم بوليويف. وتعبيرًا عن إمكانية التلاقح الحضاري بين الثقافتين العربية والغربية، نرى أن ابنة النبيل هيرمد تتزوج ابنَ فضلان بعد أن أشهرت إسلامها. ومن الدلالات الرمزية في المسلسل أن تموت ڤِبكي هي وجنينها بلدغة أفعى سامة، ما يحول دون مرافقة زوجها إلى بغداد!

***

صحيحٌ أن المسلسل يمجد العرب ويظهر تفوقهم الحضاري على الغرب، لكنه في الوقت ذاته لا يشيطن هذا الغرب، وإن كان يذكر بعض نقائص هذا الغرب كالقذارة وقلة الاحتشام وانعدام مفهوم الوفاء في الحياة الزوجية. فابن فضلان رجل لبق عالم بأمور الدين والدنيا، عارف بالشعر والأمثال والعلوم والفلسفة التي تُبْرِز حكمة العرب وتفوقهم الأدبي والحضاري والأخلاقي والاجتماعي والعلمي. ولهذا لم يكتفِ حسن م. يوسف بالاعتماد على رسالة ابن فضلان ورواية كرايتن، بل أضاف إليها الكثير، فترك بصمةً واضحةً على عمله الإبداعي. ولولا ذِكْره للمستشرق النرويجي المزعوم پير فراوس دولوس، الذي نسخه من رواية كرايتن من غير أن يتحقق من وجوده، لكان الخيال في عمله خيالًا أدبيًا غائيًا مشروعًا لا وهمًا زائفًا مُضلِّلًا.

حتى محمد الأسعد الذي كتب رواية «شجرة المَسَرَّات: سيرة ابن فضلان السرية»، التي فرغ من كتابتها في الكويت سنة 2001 ونشرها في عمَّان عام 2004، تأثر برواية مايكل كرايتن (انظر ص 43 عن الدينورية التي تختارها العرَّافة لترافق سيدها إلى العالم الآخر). يتخيل محمد الأسعد مخطوطةً أخرى لابن فضلان سرية أملى فصولها على كاتبه ورفيق رحلته ابن العلوي. ولكن المخطوطة لم تصل إلى بغداد لأن ابن فضلان لم يرجع إليها بل أقام في بلاد البلغار وهناك عاش حياة مختلفة لم تذكرها كتب التاريخ لكنها مذكورة في المخطوطة السرية. إذن، يبتكر الكاتب تحت عنوان «شجرة المَسَرَّات» مخطوطة ذات موضوع مختلف ومعها يبتكر سيرة للمخطوطة ذاتها تحكيها الأيدي التي تداولتها وعلقت عليها وسير الشخوص التي تأثرت بها.(5) وهنا يبرز التأثر الكبير بالروائي الصربي ميلوراد پاڤِچ في روايته «معجم الخَزَر» حيث تروي سيرةَ المعجم الأيدي التي تداولت هذا المعجم الضائع، والأسعد ينسج على منوال هذه الرواية.

ؤ45ف5في

يبدو ابن فضلان، كما تروي سيرتَه «شجرة المَسَرَّات»، لا علاقة له بابن فضلان التاريخي الذي ارتحل إلى بلاد الترك والصقالبة والخزر. فرحلة ابن فضلان المتخيلة، “هي رحلة في المسرات لا الفَلَوات، واحتفالًا بنشوة الجسد لا بخلافات حامل هدايا الخليفة إلى ملك بلغار، وخلطًا بين حكمة الهند والصين وشريعة المصطفى” (ص 91). وابن فضلان عاكفٌ على شرابه تتمدد أمامه في العتمة شَغب الصينية، أم المقتدر بالله (ص 100). وبينما ابن فضلان على فراش الموت (في بلاد البلغار) يوصي المُرابطة أن تصعد إليه وتحترق معه، ولكن نقيةً طاهرةً بلا حفلات خمر ومجون (ص 101).

وتتعدد الروايات عن الأزمنة والأمكنة التي يعيش فيها ابن فضلان. فهناك من يقول إن ابن فضلان يعيش في القوقاز في أواخر القرن التاسع عشر، وهناك مستشرق روسي في مدينة بطرسبورغ يقول لطالبه اللبناني الشاب إن هناك نسخة ثانية من رسالة ابن فضلان لم يكن يُسمح لأحد بالاطلاع عليها لأنها جاءت من طريق الشرطة السرية ولم يُكشف عن مصدرها حتى الآن. كما يخبره أن سبب التكتم على النسخة الثانية يعود إلى الاشتباه في أن أفكارها لها دورٌ في تحريض جماعات الناقمين على القيصر (ص 76). كما يخبره أن النسخة الأولى تُدعى نسخة التيبت، نسبةً إلى الراهب الذي جاء بها من التيبت. أما النسخة الثانية فقد وجدتها الشرطة السرية في إحدى مداهماتها لإحدى شقق الجماعات الفوضوية، وكانت طالبةٌ روسيةٌ اسمها ڤيرا پوپوڤا قد أتت بها من جنيڤ وترجمها شابٌّ اسمه پِلِنسكي، وقد احتفظ لنفسه بنسخة من الترجمة، ثم وزعها بين أصدقائه فانتشرت بين الجماعات الفوضوية. وهذه الرسالة تصور ابن فضلان بصورة الماجن الخليع والمؤسس لطريقة صوفية تدعى الفَضْلانية. وهناك من يرى أن ابن فضلان هذا هو غير سَمَيِّه المعروف عند ياقوت الحموي وجملة من الجغرافيين. وابن فضلان هذا قليل التحفظ أحيانًا، فيتبذَّل ويُسِفُّ، فتحسبه من خُلَعاء الكَرْخ، ويسمو ويرتفع أحيانًا فتحسبه من شيوخ الصوفية (ص 90).

تقول رسالة ابن العلوي التي عُثِر عليها في قبر امرأة من الڤايكنغ (ص 105) إن ملك البلغار سجن ابن فضلان ومنعه من العودة إلى بغداد. ويحاول مستشرق اسمه ثوركل أن يضع ثلاثة احتمالات لسجنه: 1) هل لأن الملك اشتبه أن ابن فضلان اختلس الأموال التي أرسلها معه المقتدر بالله؟ 2) هل سجنه بسبب علاقته بعَرَّافته الشابة التي لم تعد تأبه للملك بعد تعرفها على ابن فضلان؟ 3) أم لأنه رأى أن الصقالبة البلغار تحولوا بعد وصول ابن فضلان من محاربين أشداء إلى أناس وادعين منشغلين باللهو والغناء والشرب والمجون؟ يقول ابن العلوي إنه كلما عاد سيدُهُ ابنُ فضلان من سهرة مع السندي تراءى له أنه إنسانٌ مصلوبٌ بين ثلاثة عوالم (ص 114).


المراجع:
  1. استقيتُ رسم مسارَي الرحلة من د. رؤى حسين قداح، “رحلة استلاب الذات: قراءة في رسالة ابن فضلان بتحقيق حيدر محمد غيبة.” مجلة «دراسات في اللغة العربية وآدابها».16 (شتاء 2014)، ص 86-87.
  2. انظر خالد سعيد، “رؤية صوفية يتطابق فيها الظاهر والباطن.. والله ومخلوقاته” على هذا الرابط.
gfrrhf



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى