سوريا

لماذا شعور السوريين “لا يُوصف”؟



ترددت عبارة “شعور لا يوصف” كثيراً على لسان سوريين، وسمعناها عشرات المرات في اليومين الماضيين عندما زرع الحلزون لأول دفعة مكونة من 30 طفلاً سورياً بدعم من مركز الملك سلمان للإغاثة، وعندما سلّم فريق ملهم التطوعي منازل لعشرات العائلات فقدوا كل شيء في الزلزال المدمر.

غالبًا ما تُستخدم عبارة “شعور لا يوصف” عندما يواجه الشخص مشاعر مكثفة مفاجأة وأحاسيسَ فريدة أو معقدة يصعب تحويلها إلى كلمات علماً أن اللغة العربية تحوي على أكثر من 12 مليون مفردة، ويتحدث الإنسان في اليوم 10 – 20 ألف كلمة.

تقتل العاطفة كل المفردات وتأسر اللحظة صاحبها فتكمم فمه، وتحتشد السيالات العصبية في القلب ويُحبس الدم عن الدماغ. في هذه اللحظة القلب سيد الموقف والقلب لا ينطق، أما الدماغ فيحاول أن يستعيد موقعه وسلطته ويضرب بالأفكار والهواجس على القلب ليضطرب وينسحب، ويذكّر أن الحلزون المزروع سيجعل الطفل يسمع صوت البرميل والصاروخ ويسمع صراخ الأطفال وصرير أسنان الأمهات توتراً وصوت أنين الأب المتكسر بعمله ألماً، وسيسمع صوت رياح الخيمة برداً وصوت المطر سيلاً.

يبدو مما شاهدناه أن القلب انتصر في معركة السالب والموجب، وأن ذوي الأطفال أطفال مثلهم براءةً، اقتنعوا بأبسط من كل ذلك، بإيجابية صغيرة واحدة، أن أطفالهم سيسمعون صوت حفيف السنابل في الحقل المجاور وصوت عصفور أو قطة، وصوت أذان وتلاوة، وصوت الأم عندما تنده لطعام لذيذ، وصوت أقرانهم لهواً ولعباً يكاد لا يتوقف.

انتصار القلب على الدماغ ببسيط الفكرة وكأنه حصوة من الإيجابية تقلق جبلاً من السلبية، وقدسية اللحظة وكثافة المشاعر تكبّل الدماغ أكثر ولن تطلب منه مساعدة في التعبير، فينطق القلب بالعبارة: “شعور لا يوصف”.

نحن هكذا لن نصف لكم مشاعرنا، ليس لأننا لا نستطيع بل إنها لحظة خاصة جداً، وفرحة إن وُزّعت على الكون لغمرته، لكنها قيمة ثمينة غير قابلة للمشاركة تجعل أي إنسان أنانياً لها.

تعود بنا هذه اللحظة التي تفور فرحاً إلى سحيق الزمان عندما اتفقت مجموعات البشر على رموز وأصوات لتصبح لغة، لكن اللحظة تكسر هذا الاتفاق وترفض الحروف الاصطفاف في كلمة أو جملة، إلا جملة واحدة: “شعور لا يوصف”.

عدم القدرة على الوصف ليست مجرد وعكة لغوية، بل هي جانب سامٍ من حالة الإنسان، مثل الاستعارة والمفارقة والصمت والاختزال الذي يلجأ إليه الأدباء والشعراء، أو عندما يتحدث متصوف عن روحانيات تفيض منه، أو عندما تضرب ريشة رسام فيختزل قصة كاملة وملامح وجوه مر عليها ما مر بصورة واحدة، أو عندما تنساب أنامل عازف على وتر مثل مقطوعة نينوى .. تعرف من اللحن كارثية ما حدثت وأن الحزن “لا يوصف”.

هنالك لحظات من البصيرة والمشاعر تغرس نفسها في الروح، أعمق من تلافيف الدماغ وأوسع من مركز النطق. يشبه ذلك ما يحدث لرجل عجوز فقد ذاكرته لكنه يحفظ وجهاً محبباً أو اسماً ودوداً أو باب منزل احتضنه بدفء.

هنالك تفسير آخر لماذا لا يستطيع السوريون التعبير عن مشاعرهم، لأن مشاعرهم هذه لا تكون مكثفة وعميقة فحسب، بل هي مركبة معقدة فيها مزيج من كل شيء.

لنتخيل. العائلة التي فقدت ونزحت وذاقت وبل النار والبارود والصيف والشتاء والزلزال ولا يجد ربها عملاً يسد رمقاً ولا تجد الأم مكاناً للكاسات والصحون المزركشة فتعصرها الذاكرة إلى منزلها الواسع الحنون المليء بالزروع وخزائن البلوريات والتحف، أما الأطفال فيشتهون التعليم وحقيبة المدرسة والحلويات والنزهات واللباس الجديد … هناك على منحدر سفح تمزق شمس آب خيوط الخيمة وتمهّد لسيول التشرينين تنسل من التمزقات والرقع الكثيرة. هذا الحال يعيشه أكثر من مليوني نازح في أكثر من 1250 مخيماً شمال غربي سوريا. 

لا تقتصر الحاجة لسكان الخيام المهجرين والنازحين، فالمكان الذي حاصره النظام وروسيا وإيران وتركه “أصدقاء الشعب السوري” يعج بالفقر والعوز، وتحولت فيه سلطات الأمر الواقع إلى شركات رابحة ينهش فسادها جيوب الناس.

السعادة تطغى على كل شيء لكن هواجس الدماغ تركت ندبها، فيفكر ذوو الأطفال فيما بعد وفيما تبقى وفيما راح وفيما لو أن، و”لو” لا تفتح فقط باباً لشيطان الدماغ بل تقتل روحاً وأملاً وتخضع بطلاً ومؤمناً. 

هكذا يكون حال من أجابوا بعبارة “شعور لا يوصف”. هي عبارة تغلق المجال أمام أن ينزاح التعبير إلى الدماغ أو تسقط سهواً كلمة تقتل اللحظة، اللحظة التي نريد مشاهدتها نحن المتفرجين ونذرف عليها دمعة فرح حلوة ثم نمرر الشاشة إلى فيديو آخر.

شكرا لكل من تبرع وزرع بسمة وأعاد صوتاً وبنى بيتاً وهدم خيمة وزرع شتلة وغنى لحناً وضرب حجرة وشتم ظالماً وطببّ مريضاً وأوقد مدفأة وأدار مروحة وسقى ماء وأطعم تمرة وبرى قلماً.. لكن الحاجة أكبر، والشعور يُوصف يا سادة، لكنه يقتل رومانسية الخواتيم، ولذلك يقول السوريون لكم “شعور لا يُوصف”.



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى