سوريا

موت المؤلِّف.. حياة المؤلِّف


عندما أعلن بارت في مقالته الشهيرة “موت المؤلِّف” والتي تمَّ نشرها في كتابه “هسهسة اللغة” موتَ هذا المؤلِّف كان يبشِّر بانفتاح النص اللانهائي على التأويلات، ويشير إلى تعدُّده بتعدد القرَّاء، وهذه النظرية تعدُّ ثورة في عالم النقد الأدبي في ذلك الوقت وفي وقتنا الراهن أيضاً، وذلك من خلال إعادة النظر في العلاقة بين المرسِل والمتلقِّي، وإعطاء النص قيمته البنيوية بعيداً عن مبدعه، بمعنى أنَّه كان قبل ذلك الإعلان يتمُّ البحث عن مدلولات الكتابة من خلال شخص الكاتب وحياته الخاصة بشكل رئيس.

هذا ما جعل النص برأي بارت محدود الأفق والتوقعات، لذلك نراه يقول: “نعلم أنَّه لكي تستردَّ الكتابة مستقبلها، يجب قلب الأسطورة، فموت الكاتب هو الثمن الذي تتطلَّبه ولادة القارئ”[1]، وهو بذلك أعطى بداية للنظام اللغوي أهمية كبيرة لم يكن ليحظى بها من قبل، وكبَّد القارئ في الوقت ذاته عناء عظيماً لتأويل النص اعتماداً على النص نفسه؛ لأنَّ هذا التأويل يتطلَّب من القارئ ثقافة لغوية واسعة، وكما يقول كمال أبو ديب: إنَّ البنيوية لا تغيِّر اللغة ولا تغيِّر المجتمع لكنَّها تجبِّر القارئ على التفكير العميق المتعدِّد الأبعاد، وتدفعه للبحث في العلاقات اللغوية المختلفة، ممَّا يؤدي إلى بروز فكرٍ متسائلٍ، قلقٍ، وجدليٍّ[2].

إننا نرى أنَّ المؤلِّف أخذ موقعه الجديد الذي برز فيه دوره، إذ بات الكاتب بعد موته أو قتله إن صحَّ التعبير قارئاً جديداً لكتاباته، ومشاركاً في عملية إنتاجه مرة ثانية مثله مثل باقي القرِّاء

في الحقيقة نحن لن نختلف مع بارت في ذلك القتل المُتعمَّد الذي تسبَّب به للمؤلفين عموماً؛ وذلك لأنَّ الثمن في المقابل كان في إعطاء الحياة للقارئ على حدِّ تعبير بارت نفسه، وعلى حدِّ ما هو معروف فيما بعد البنيوية التي رأت أنَّ في موت المؤلف ولادة للقارئ، ولكن ألا يمكن أن نعدَّ موت المؤلف موتاً لما هو ذاتيٌّ خالص، وحياة لما هو فردي في إطاره الجماعي؟ وذلك على اعتبار المؤلِّف جزءاً لا يتجزَّأ من المجتمع، وأنَّ إبداعه للنصوص الأدبية ما هي إلا تعبير عمَّا يدور في إطار المجتمع الذي يعيش فيه.

وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن الغاية التي من أجلها يكتب المؤلِّف إبداعاته الأدبية إذا كان على معرفة تامَّة أنَّه سيتمُّ إقصاؤه عمَّا أبدعه بعد أن ينتهي من الكتابة، وبعد أن تصبح كتاباته في يدي المتلقِّي، خاصة وأنَّ التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتعرَّض لها المجتمعات لها تأثير على عملية الإبداع في الدوافع والرؤى والغايات عند المؤلفين جميعهم على وجه العموم، ففي مقدمة رواية “نيغاتيف” للكاتبة روزا ياسين حسن تعلن الكاتبة الغاية التي دفعتها لتكتب عن سجون النساء في سورية، فتقول: “إنَّه لا يمكن لتجربةٍ أن تستمرَّ إلَّا حين تدوَّن، والضياع كُتِبَ على كلِّ شيء لم يُنقش في الحجر”[3]، إنَّ حرص الكاتب على توثيق التجربة التي يعايشها هي عملية مهمة ليست لحفظ هذه التجربة من الاندثار وحسب، وإنَّما هي عملية مهمة أيضاً ليكتسب القارئ معرفة ما لم يكن ليعرفه لولا هذه الكتابة، وبذلك يبحث الأثر الإبداعي دائماً عن المتلقي الذي سيحوِّل هذه الكتابة إلى ذاكرة في الوعي الجماعي وليس الفردي، وذلك لأنَّ “التجربة الأدبية الفردية للمبدع هي بالضرورة تجربة جماعية تنفتح على عموم الحياة وتمثِّلها في جوهر الكتابة الإبداعية”[4]، بمعنى أنَّ الكاتب مهما كان ذاتياً في حديثه عن تجربته الإبداعية لا يمكن أن يكون مخلصاً لذاتيته؛ لأنَّ تلك التجربة ما كانت لتكتمل لولا ارتباط الفردي بالجماعي بشكل أو بآخر، ومن هنا يستطيع المؤِّلف أن يحقِّق غاية لا تتعلَّق بذاته بوصفه كاتباً وإنَّما تتعلَّق به بوصفه فرداً من جماعة ينتمي إليها، وهذا الوعي لا يحدث في المرحلة التي يعيش فيها الكاتب غالباً، إذ إنَّ تشكيل الوعي الثقافي للمجتمعات يأتي في مرحلة متأخرة، أو في مرحلة أخيرة من تشكُّل الوعي الاجتماعي.

وقد تكون الغاية من وراء الكتابة كما تذهب إلى ذلك الكاتبة يارا وهبي هي الشعور العارم الذي يمتلئ به المؤلِّف بالمسؤولية تجاه الآخرين[5] الذين كانت تجربته نتيجة خبرته بهم ومعايشته لهم، فيسعى المؤلِّف إلى مشاركة الآخر في تجربته التي تتحوَّل من الذاتية إلى الموضوعية من خلال اتساع رؤيته وتعميم تجربته.

إننا نرى أنَّ المؤلِّف أخذ موقعه الجديد الذي برز فيه دوره، إذ بات الكاتب بعد موته، أو قتله إن صحَّ التعبير، قارئاً جديداً لكتاباته، ومشاركاً في عملية إنتاجه مرة ثانية، مثله مثل باقي القرِّاء، من خلال علاقة الفردي بالجماعي، وبذلك لن يتوخَّى الحياد الدقيق الذي فرضه كاتبٌ فرنسيٌ منذ أكثر من خمسين سنة على علاقة الكاتب بكتابته. إذاً، يمكننا أن نقول بناء على ذلك إنَّ نظرية بارت النقدية على الرغم من قسوتها على المؤلِّف إلا أنَّها لم تعدم الوسيلة لتعيد للمؤلِّف الحياة مرة ثانية ولكن من موقع مختلف.

mwt_almwlf-_tlfzywn_swrya.png


[5] حوار خاص مع الكاتبة يارا وهبي عبر الهاتف.

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى