اليمن

مرحباً رِزكاون في عالم التفاهة.. إيّاك أن تستغرب!



مقال ينتقد عالم اليوم بصورة فانتازية خفيفة.

____

كالعادة أشرد في خيالي عندما أفكر في الهروب من الواقع الأليم في عالمٍ يغمره البؤس وتحيطه المعاناة من كل الجهات، واقعٍ يأكل القوي فيه الضعيف حتى أضحى أشبه ما يكون غابة، وكما في المرة الأولى، فاجأني زركاون بالظهور أمامي، هاهو زركاون لقد عاد للمرة الثانية بعد عامٍ كاملٍ كما في حسابنا الأرضي، وقد ظننت أن لن يعود، ولكن عاد! 

عاد صديقي الأورانوسي بعد غياب جعلني إليه في شوقٍ أحر من الجمر، عاد من أقصى المجرة إلى كوكب الأرض في زيارةٍ أخرى، يزعم أنه يحب كوكب الأرض لأن فيه بشرا طيّبين، ومن هذا المنطلق كان قد اطلع على الكوكب تاريخاً ومجتمعا وجغرافية زرعت في وجدانه الشوق لزيارته، لكنه في المرة السابقة تلقى صدمةً مخيبة عندما وجد أن الحقيقة عكس ما يظن، وأن عالمنا مليءّ بالمظاهر التي تحزّ في النفس وتوجع الضمائر.

هرعت إليه على لهفة.. 

-أهلاً بك رزكاون! أين كنت يا صديقي! لماذا كل هذا الغياب.

توسعت حدقات عيونه متهللاً وتفتحت ملامحه عندما وجدني مرحباً به على شوق! 

يخاطبني وهو مبتسم:

=إنني أيضاً في شوق إليك وإلى هذا الكوكب الأزرق! 

إنني لا أزال أحبه رغم ما أخبرتني سابقاً عنه من الحقائق.

-كنت أعلم أنك ستتفاجأ بتلك الحقائق، فأقوى الصدمات عندما تجد حقائق من تحب تحب عكس ماكنت تعتقد.

=نعم، إنها صدمة معنوية لم أتوقعها ولكن عقلي قد امتص أثرها واستوعب ذلك. 

-جميلٌ هذا فما كل ما نظنه يجب أن نعتقده.

نعم، والآن أرجو أن تخبرني عن الواقع الجديد بعد عام، ربما قد تحسنت الأمور وآلت إلى الأفضل.

تخالجني ابتسامةٌ صفراء يغلب عليها الشعور ببراءة السؤال ومرارة جوابه.

يحملق فيّ زركاون ويفهم ذلك من ملامحي.

=خيراً ، لماذا هكذا بدوت بعد السؤال! أرجوك لا تُذهِب تفاؤلي ولا تَخب ظني كما فعلت في المرة السابقة.

أصرخ في وجهه دون شعور، أُخيّب ظنك. ما الذي تقوله أيها الفضائي..!، ثم أتمالك نفسي ناظراً إليه بعين الحزن متأسفًا : لم أخب ظنك أبداً بل هناك من خيّبَ ظني وظنك وظن كل من يفكر مثلنا يا صديقي. 

إنك تأتي فقط للسؤال أما أنا فأعيش إجابته بالغصب والإجبار. 

إنني أعيش هذا الواقع لحظةً لحظة، وكأنّ شريط جميع أحداثه يمر أمام عيني فلا أنا بالذي أستطيع أن أوقفه ولا بالذي يمكنني أن أغلق عيني كي يهدأ عقلي ويرتاح ضميري. 

إننا يا زركاون قد صرنا في عصر التفاهة! عصر الانحطاط والانحدار إلى مهاوي كل قبيح، إننا نهوي في درجات السالب إلى ما لا نهاية. 

لا تحسن ظنك بهذه السذاجة يا صديقي الغريب في شيء يغلب عليه نتيجة الخيبة. 

إننا في زمانٍ تستدعي هذه اللحظة العجب منه بشكل أشد من اللحظة السابقة. عصرٍ نسبق فيه الضوء إلى الظلام وإلى كل قبيح. 

إننا يا صديقي قد انتقلنا من زمن قلة الحياء إلى عصر انعدامه، وهاهي بداية مرحلة استنكاره تُدشّن أمام ناظرينا. 

عصر الكذب الصريح الواثق من نفسه، يكذب القوي وهو يعلم أنه يكذب، فيستمع إليه المنافقون وهم يعلمون أنه يكذب، ثم يبرمجون عقولهم على تصديق تلك الكذبات المنمقة بزخارف القوة والسلطان تلقائياً دون عناء.

زمن يحلو للمنافقين طعم النفاق ويعدونه ذكاءً ودهاء.

 ومن هنا حتى لا يُوشَّى بك إيّاك أن تستغرب فضائح أهل هذا العصر وقبائح أناس هذا الزمان.. أقول لك هذا إذا شئت أن تسلم!

فلا تستغرب من حاكم مستبد مجرم تسبح كرسيّ عرشه على بحيرة من دماء شعبه، ثم تجده يمدح نفسه بأنّ عيبه الوحيد هو طيبته الزائدة! ولولا هذا العيب الوحيد لنال الكمال!!

ولا تستغرب عندما تجد جامعةً عالميةً عريقة تستضيف امرأة، وتطلب منها إلقاء محاضرة أمام جمع من الأكاديميين والباحثين ذوي الشأن، وتكرمها، وعندما تبحث عن اسم تلك الضيفة التي كُرّمت وكأنها أستاذة زائرة تتفاجأ بأنها -للأسف الشديد- بغيةً عاهرة!!

ولا تستغرب عندما تمنح ألقاب سفراء النوايا الحسنة لفنانين كل إنتاجهم هادم للقيم والأخلاق .

ولا تستغرب عندما تمنح راقصةٌ متعريةً لقبَ “الأم المثالية”؛ لأنّ المثالية في هذا العصر المناقض للفطرة صارت مرادفةٌ لكل قبيح. 

ولا تستغرب عندما يُدوّن المغنون الساقطون والممثلون المنحطون وأدعياء الأدب والثقافة الّنشاز على أنهم من صانعي التاريخ.

ولا تستغرب عندما تجد ممثلاً كل رسائل أفلامه هابطة وفي غاية الجراءة في مشاهد الانحطاط وهو يقول “إنه يتكسف _ يستحي _أوي”، وإياك أن تستغرب أيضاً عندما تجد ممثلة هي الأخرى جل مشاهد أفلامها انحلال ودعارة ثم تصرح أنّ فيها طبع الخجل الشديد، ليه كده يا ست؟! تجيب بكل سخرية من عقول المستمعين “لأنني درست في مدارس خاصة بالبنات”! 

لا تستغرب أن يصبح الفن الهابط والأدب المنمق ذوقاً راقياً تتمدد رمال صحاريهم لتطمس على أشجار الفن الراقي والأدب الرفيع وتقضي على كل جميل.

لا تستغرب في زمانٍ أصبح لبس الحجاب جريمة تستدعي العقوبة، بينما التعري حقاً ، ودليل رقيّ ومظهراً ضرورياً للتقدم والحضارة.

بل أيضاً لا تستغرب عندما ينظر إلى الزواج الرابط بين رجل وامرأة على أنه موضة قديمة، وأنه لا حضارة أو رقي إلا بنشر أفكار المثلية الانحطاطية وتفشي سرطان الشواذ الخبيث.

ولا تستغرب عندما يحارِب هؤلاء المتشدقون بالحرية كل الذين يرفضون مجرد الارتياح لهذه الأفكار المنحطة؛ فلا يحق لهم أن يتطهروا في عالم القذارة الأخلاقية النتنة.

ولا تستغرب أيضاً من هؤلاء الذين يعلكون ألفاظ الإنسانية والحرية ليل نهار بأفواهم وهم يرون مجرد استنكار الجرائم الصهيونية البشعة على أنها إرهاب وإجرام تحت مصطلح سخيف اصطنعوه وسموه “معاداة السامية” بينما دماء الأطفال الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب المظلومة ليس لها أدنى قيمة؛ لأنهم أغيار حسب عقيدتهم الظلامية.

وتجدهم أنفسهم يشتعلون نارا إذا أهينت قطعة قماش ترمز للمحتل الغاصب، بينما إحراق كتاب مقدس لدى مئات الملايين من البشر ليس سوى حرية رأي وتعبير!..

ولا تستغرب عندما تعبر أخبار وفاة أكثر من 700 نسمة كانوا يستقلون قاربا للبحث عن حياة بعيدة عن الحروب، فينقلب بهم قاربهم نتيجة إطلاق نارٍ متعمَّدٍ خالٍ من أدنى أبجديات الرحمة من قبل أدعياء الحضارة والإنسانية،  700 نسمة في قارب يعجّ بالأطفال والنساء الذين صاروا غذاءً لأسماك البحار تتقاذف أشلاهم الأمواج ولا عين تبكي عليهم بل ولا من أدنى اهتمام، لأن الدموع والاهتمام مدَّخرة لأربعة من ذوي الثراء الفاحش سيقضون نحبَهم فيما بعد وهم يتنزهون في أعماق البحار.

 

لا تستغرب من حكومات في هذا العصر تسمي شعوبها ومواطنيها بسكان الجنة، حتى إذا ما طمع ذلك ذلك العربي أو الشرقي المسكين وزوجته في أن يدخلوا جنتهم على براءة نيةٍ للعيش في حياة هادئة كريمة يتفاجئون بأمن دولتهم، وهو ينتشل أولادهم وفلذات أكبادهم من أحضانهم بمبررات واهية وذرائع فاجرة، أطفالهم يبكون حنينا إلى والديهم، بينما والداهم واحدٌ يموت من الكمد والآخر يتلوى في أتراح من الظلم المرير.. لتتضح جنتهم بأنها في الأصل نبذة من جنة الدجال، وحقيقتها ويلٌ ينضَح بعذابٍ أليم.

ولا تستغرب عندما تجد تافهين وصلوا إلى الشهرة بالعهر والانحلال أو بالبذاءة والسفاهة، متابعيهم تتجاوز الملايين بينما العلماء والأدباء والمفكرين ممن كل إنتاجهم خير لأمتهم لا يعرفهم دائرة سوى المحيطين بهم.

لا تستغرب عندما تجد دولةً مؤهلةً لأن تكون من عُظمَيَات دول العالم، يعود أحد أبنائها إليها، وهو حائز على نوبل للعلوم ومن أكبر علماء العالم في مجاله، يعود كي يخدم شعبه ويسهم في الرقي به وانتشاله من براثن التخلف إلى أوج التقدم، ثم يُجازى بأنه لم يجد من يستقبله في المطار من قبل أصحاب الدولة المحترمة، وبعدها لا يتمكن من الوصول إلى أيّ مسؤول معني كي يشرح خطته النهضوية بالعلم والتعليم! يعجز عن مقابلة أصغر مسؤول في بلده وقد ترك في غربته دولةً عظمى مُنح جنسيتُها، ونُصِّبَ مستشارا لرئيسها، وأُغدِق فيها عليه من كل ما يشتهي وأكثر.. ورحمك الله يازويل. فهاهم مشغولون على جوعهم بشلةٍ من التافهين الرخاص.

وهؤلاء أنفسهم تركوا مصطفى محمود على مكانته السامقة في العلم والفكر والأدب، تركوه وحيدا في حياته، ولم يمش غير أسرته وقليل إلى جوارهم على جنازته، بينما أم كلثوم حشدوا لها من مثلث حلايب حتى أقصى الدلتا، والواقع يتكلم عن كل شعب وما يستحقه.

ولا تستغرب من بلد كهذا البلد العظيم المؤهل لقيادة كل دوائره التي ينتمي إليها، وغيره أيضاً من البلدان تشقها الأنهار إلى نصفين وأكثر وفيها كل مقومات ترسيخ الأمن الغذائي والنهوض الزراعي والاكتفاء الذاتي من كل إنتاج، ثم يصبح شغلهم الشاغل الذي يؤرقهم ويضج مضاجعهم هو الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على الحبوب! تخيل أنهم بكل ما يمتلكون من مقومات يبكون على الدقيق الأوكراني، مع أنه لا يليق بهم هذا حتى وإن كانوا يستوردونه مجاناً! فكيف وهم يدفعون مقابله مئات الملايين من الدولارات!

ولا تستغرب -أيضاً- إن وجدتَ دِوَلاً تهرع إلى اللحاق بركب الدول العظمى حسب زعمها، وعندما تفكر في كيفية تحقيق هذا الهدف العظيم بسرعة قصوى تضع برنامجاً استراتيجياً مدعوماً بمئات المليارات ترأسه لجنة ترفيه، يقتضي ذلك البرنامج بفتح الملاهي الليلية والمراقص والحوانيت وأوكار العهر والفساد، واستقدام المغنيين والراقصات والتافهين من فناني الأسواق والشوارع، ومن ثم تغمرهم بالأموال والاهتمام بصورة محيّرة تجمع بين التبذير السفيه والحمق الشديد، ومن هنا فهي تكون – كما في رأيها ورأي من على شاكلتها- قد قطعت نسبةً كبيرة في التقدم الصناعي والتكنولوجي وأصبحت تنافس الدول النووية الكبرى في إنتاج أسلحة الردع والمواجهة.. كل ذلك فقط بلجنة ترفيه وضخ المليارات لتنفيذ خطتها الجهنمية.

ولا تستغرب أيضاً أن تجد دولةً فيها الأراضي المقدسة مهوى القلوب والأرواح التي تعني أكثر من ملياري إنسان، تقوم إلى جانب فتح حوانيت الفساد والانحلال، باستقدام لاعبي كرة وإغرائهم بمئات الملايين من الدولارات إلى جانب إسكانهم في القصور الفخمة وإغداقهم بأسباب النعيم، بينما هي تفرض على ذلك الإنسان المتدين الفقير الذي يريد مجرد الحج مبالغ مالية معظم مسلمي العالم يعجزون عن الحصول عليها في ظل واقع بائس جعلهم يكتفون بالحصول على لقمة عيش تقيم صلبهم.

وتلك الدولة نفسها أيضاً تخلس جلود العاملين على أرضها لتنهب اموالهم بدعاوى متنوعة أساسها الظلم والجور، ثم تجمع ما لا يقل عن 400 مليار دولار كدفعة أولى، وتذهب بها إلى رئيس أشقر يستمتع بتهديدهم والسخرية منهم.

مئات الملايين والمليارات تبذر في الهواء وتذهب سُدًى، ليست أرقاماً سهلةً إطلاقاً بل أرقام فلكية تثقل حتى عن النطق لمن يعي ما تعنيه، أرقامٌ ضخمةٌ لو وُضِعت في خطة تنموية حقيقية لدارت عجلة التنمية إلى الأمام بسرعةٍ تسبق الضوء مبشّرةً بجنةٍ على وجه الأرض لا يجوع فيها فقير ولا يئنّ مريضٌ سبب أنينه عجزُه عن شراء دوائه، ولا يضطر للتسول فيها محتاج ولا مسكين. ولا تتفاوت الطبقات الاجتماعية كل هذا التفاوت الرهيب الذي لا يخطر على بال.

لا تستغرب يا صديقي من هذا العالم الرخيص الذي يدعي أن تعدد الرجل في الزواج ظلماً للمرأة، بينما تعدد العشيقات حقٌ من حقوقه وكذلك أيضا من حقوقها.

عالم يمهد فيه بكل قلة حياء لنكس الفطرة البشرية السليمة، ليصبح الكوكب فيه “قرية سدوم” مكبرةً أضعاف الأضعاف. 

إن هذا العالم يا زركاون أضحى الأكسجين فيه مهدداً بانبعاثات كربونية من القذارات الأخلاقية، تجبر الإنسان السويّ على خنق نفسه حتى لا يستنشقه فيفسد عليه فطرته.

إن الوعي في هذا العالم جالبٌ للتعاسة، وهو بذلك يحتاج بضرورة قصوى إلى إيمان وجَلَدٍ قويين، ولا أحداً يعاني كما يعاني الشخص الواعي لكل ما يدور حوله، فيظل يتلفت ولا يلقى إلا ما يسؤوه.

نصيحةً أخيرةً يا زركاون، عُد سريعاً إلى أورانوسك اللطيف قبل أن تغزوَ رئتيك -على حين غرة-  تلك الانبعاثات الدخيلة على فطرة كل مخلوق، ولا تنسَ أن تنبّه عطارد وزُحل وبقية الكواكب الأخرى على طريقك بأن يحصنوا عوالمهم بأيّ طريقة، فالكوكب الوحيد الذي يمتلك غلافاً جويّا أوشك أن يجتاحَ ذلك الغلافَ فسادٌ حارقٌ بعد أن عمّ بَرَّهُ وبحرَه.

وداعاً زركاون!

 



مصدر الخبر

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى