سوريا

رحلة السينما السورية من زمن “البعث” إلى الثورة


منذ أول فيلم سينمائي سوري “المتهم البريء” (1928)، الذي اعُتبرت الحركة السينمائية السورية من خلاله من أوائل الحركات السينمائية في المنطقة العربية، وحتى وقتنا هذا مرت السينما السورية بعقبات كثيرة وشهدت تحديات ومراحل صعبة، ولكنها تمكنت من الاستمرار رغم التقلبات والتفاوت في الأداء والجودة.

السينما السورية في ظل الحكم البعثي

كان لوصول “حزب البعث” إلى السلطة سنة 1963 دور إيجابي بترسيخ السينما في صالات العرض الخاصة والعامة في بداية الأمر، ولكن سرعان ما تحول إلى دور سلبي مع فرض القيود المختلفة على أصحاب صالات العرض الخاصة، واحتكار استيراد أشرطة الأفلام بـ “المؤسسة العامة للسينما” فقط. وواصل هذا النوع من التقييد  لتوجيه المخرجين وغيرهم من الفاعلين في هذا المجال، والتحكم بإنتاج وتوزيع الأفلام، وتوجيه محتواها لخدمة أجندة الحزب فقط.

ومع تسلّم حافظ الأسد رئاسة الجمهورية مطلع السبعينيات، دخلت البلاد بمرحلة أكثر تقييداً وتعقيداً مما كانت عليه في الفترات السابقة، وكانت بداية أخرى لمعاناة السينما من شروط الإنتاج الموجه والممنهج لخدمة الأغراض الدعائية للسلطة أكثر من الحزب، إلى جانب المنع والتعتيم على الأفلام التي لا تتناسب مع سياسة النظام فخضعت الأفلام المنتجة بمعظمها للمعايير الصارمة التي حددتها المؤسسة، وكانت البداية مع منع فيلم “الحياة اليومية في قرية سورية” للراحلين عمر أميرالاي وسعد الله ونوس، كما واستمر مسلسل المنع لعقودٍ كثيرةٍ، وكان من أبرز ضحاياه فيلم “نجوم النهار” للمخرج أسامة محمد، وفيلم “حادثة اغتيال” لنبيل المالح. وأفلام أخرى للمخرجين العائدين من الدراسة في الخارج مثل (محمد ملص، وعمر أميرلاي وغيرهم).

وتكرر حوار إهمال المشاريع السينمائية السورية مع سلسلة الفن السابع -من إصدار المؤسسة-فكانت التجارب النقدية للمشاريع السورية ضمن إصداراتها أكثر تواضعا من أن تكون أعمالاً توثيقية أو نقدية حقيقية، فضلاً عن افتقارها إلى المراجع والمصادر الأكاديمية.

من الستينيات إلى الثمانينيات: ذروة الإنتاج السينمائي في سوريا

على الرغم من الاحتكار الذي لازم السينما السورية  منذ استلام البعث لمقاليد الحكم إلا أنَّ هذه المرحلة تعدُّ في تاريخ السينما السورية (بين الستّينيّات والثمانينيّات) مرحلة الفورة الإنتاجية على مستوى القطّاعين الخاص والعام.

في القطاع الخاص، صدرت أعمال سينمائية مثل “لوحة باص”، “مطعم الريستران”، و”الإجازة السعيدة” في عام 1960. وأضافت هذه الأفلام بعدًا ترفيهيًا وجماهيريًا جديدًا للسينما السورية، وكان زيادة الإنتاج والربح السريع أهم المساعي التي تهدف إليها تلك الأفلام . 

أما في القطاع العام، فقد انتجت المؤسسة العامة للسينما أفلامًا حاز بعضها على جوائز في المهرجانات الدولية. ومن بين هذه الأفلام كان فيلم “السكين” في عام 1972 وفيلم “القلعة الخامسة” في عام 1980. بالإضافة إلى أفلام تم إنتاجها بالتعاون مع مخرجين عرب مشهورين، مثل المصري توفيق صالح في فيلم “المخدوعون” عام 1972، واللبناني برهان علوية في فيلم “كفر قاسم” عام 1974، والعراقي قيس الزبيدي في أعمال مثل “اليازرلي” و”رجال تحت الشمس” عام 1970. هذه التعاونات الدولية أثرت إيجابيًا على تطور السينما السورية وزادت من تنوعها.

السينما السورية وصراعها مع الرقابة

على مدى عقود من الزمن، كانت السينما السورية تواجه تحديات كبيرة وصراعًا مستمرًا مع الرقابة والتدخل الحكومي. تأسست “المؤسسة العامة للسينما” بغرض السيطرة على صناعة السينما واستخدامها لصالح النظام الحاكم. كانت هذه المؤسسة تمارس سيطرة شديدة على الإنتاج السينمائي، بدءًا من مراقبة السيناريوهات وصولاً إلى قرار ما إذا كان فيلم يستحق العرض في صالات السينما أو المشاركة في المهرجانات الوطنية والعربية والدولية.

يمكن القول إن تاريخ السينما السورية هو تاريخ صراع مع الرقابة والقيود. كل مخرج وفريق إنتاج يجدون أنفسهم في مواجهة تحديات مستمرة، حيث يجب عليهم الابتكار والتعبير عن أفكارهم بشكل مبدع رغم الضغوط والقيود. تلك القصص تشمل معارك صحفية للدفاع عن حقوق الفنانين والتعبير الحر، وتواجه تصريحات “منع من العرض” ومحاولات التدخل السياسي في إنتاج الأفلام.

لا يمكننا نسيان الحادثة الشهيرة لاستدعاء المخرج الراحل عمر أميرالاي من قبل أجهزة أمن النظام السوري بعد عرض فيلمه “طوفان في بلاد البعث”. هذا الحادث أظهر وضوحًا الجهود التي بذلتها السلطات للسيطرة على السينما وقمع التعبير الفني.

ولكن بالرغم من هذه التحديات، استمرت السينما السورية في تقديم أعمال مميزة ومؤثرة تعبر عن الثقافة والمجتمع السوري.

البعث
لقطة من فيلم “طوفان في بلاد البعث” للمخرج عمر أميرالاي

السينما السورية في ظل الثورة

مع بداية الثورة السورية استطاعت السينما كسر القيود التي لازمتها حوالي الأربعة قرون من تعتيم وتقليص لمسيرة إبداعها، وأبصرت عشرات الأفلام السورية النور بعد عام 2011، التي وثّقت أهوال الحرب وأنتجت محتوى إنساني أثّر في الجماهير العالمية، وهي تنقل ملامح الحياة والموت من أخطر البقاع المأهولة على الأرض، وحصلت هذه الأفلام على التقدير والتكريم من عشرات المهرجانات السينمائية حول العالم.

لقطة من كواليس فيلم "نزوح" يظهر فيها سامر المصري وكندة علوش مع هالة زين (middleeast-24)

فقد شهدت سنوات الثورة السورية أفلام ولدت من معاناة الشعب وحظيت بأضواء عالمية ، وتم عرض لحظات مقدسة تمثل الذاكرة السورية لتكون جزء من التاريخ , وقد شعر فيه السوريون لأول مرة بالانتماء للسينما الخاصة بهم والتي تم عرضها في أعرق المهرجانات السينمائية مثل فيلم “ماء الفضة”، والذي عُرض في مهرجان كان السينمائي الدولي، وكان من توقيع أسامة محمد، وصورت قسم من مشاهده الحمصية “وئام بدرخان” أثناء محاصرتها مع أبناء مدينتها في حمص. يحكي الفيلم سيرة الثورة السورية في بداية تظاهرات درعا عام 2011 وصولاً إلى تجربة الحصار. 

فضة
فلم ماء الفضة

وشهدنا ظهور أعمال سينمائية أخرى مثل “دفاتر العشاق” و “حيطان سراقب”، والذي شارك في مهرجان “روتردام” الدولي، والذي كان وثائقيا فريداً يسلط الضوء على قصص البقاء والصمود في وجه التحديات الكبيرة. ولا يمكننا نسيان فيلم “العودة إلى حمص” للمخرج طلال ديركي، الذي كشف عن معاناة النازحين وتأثير الحرب على الأسر والمجتمعات.

أما فيلم “إلى سما” للمخرجة السورية وعد الخطيب، فقد حصد جوائز قيمة وترشيح لجائزة الأوسكار في عام 2019، وقد أثر بشكل كبير في تسليط الضوء على الصراعات الإنسانية والقضايا الاجتماعية في سوريا.

ومن الجدير بالذكر أن فيلم “طعم الإسمنت” الذي أخرجه “زياد كلثوم” نال اعترافا وتقديرا واسعين. وتم عرض هذا الفيلم في مهرجانات متعددة في أوروبا وخارجها، وأثر بشكل كبير في تسليط الضوء على قصص الصمود والأمل في ظل الصعوبات الكبيرة التي يواجهها الشعب السوري.

ييي
لقطة من فلم ” طعم الاسمنت ” للمخرج زيد كلثوم

كما ولاحظنا في العقد الأخير من الزمن ظهور جيل جديد من المخرجين والممثلين السوريين الموهوبين، الذين أحدثوا ثورة في صناعة السينما. بفضل رؤيتهم المبتكرة وأفكارهم الجريئة، حيث تم إنتاج أفلام فنية عالية الجودة تُجسد تجارب الحياة وتعكس الواقع السوري بكل تعقيداته ومصداقيته، وتم تكريم العديد من الأفلام السورية في المهرجانات الدولية وحازت على جوائز مرموقة، وهذا الشيء يبقى في نفوسنا أمال كبيرة حول مسيرة السينما السورية نحو الإبداع.



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى