عندما غُيّبت سوريا عن زلزالها.. تجربة حاضرة
فجرَ السادس من شباط/ فبراير من العام الماضي ضربَ زلزال مفاجئ أجزاءً واسعة من جنوبي تركيا وشمالي سوريا. كان الزلزال صادما في قوته التدميرية وتوقيت حدوثه لا سيما في شمالي سوريا، إذ جاء بعد شهر طويل من العواصف الثلجية والفيضانات التي اجتاحت البيوت والمخيمات، مُراكِمةً مآسيَ جديدة فوق المآسي المختلفة للقاطنين في تلك المنطقة. هُرع فريق الطوارئ مسرعا نحو غرفة الأخبار مع وصول مواد فيلمية من مراسلينا في الداخل الذين رجَّت بهم الأرض لمشاهدَ لا يمكن وصفها، وفقا للغة المتداولة آنذاك، وفي زمن قياسي فُتح الهواءُ للتغطية الحيّة والمباشرة لبلدٍ وشعب شُطِب من التغطية الإعلامية، على الأقلّ في الأيام الثلاثة الأولى للكارثة.
“زلزال تركيا”، هكذا سُمّي في القنوات العربية والعالمية و”كهرمان مرعش” وفقا للقنوات التركية، ولم تحضرْ كلمة سوريا إلا كلاحقةٍ ارتدادية، كما دأب العالم على التعامل معها فغُيِّبَتْ، عن قصد ومن دونه، عن المسمَّى والصورة، وتُرك شعبُها بلا مُعدّات إنقاذ وفرق مساعدة، ليموتَ مَنْ علق تحت الأنقاض أو أصيب. وقد بلغ الإهمال حدّا لم تتحرك فيه الأمم المتحدة إلا بعد أيام بمبررات الحدود تارة وغياب التقييم والتحضير للاستجابة تارة أخرى. لم نكن الوحيدين في تلفزيون سوريا ممَّن غطّى الزلزال في الداخل السوري لكننا تفرّدنا بالتغطية الحية، متجاوزين كلَّ الصعوبات من غياب الإنترنت والاتصالات، بناءً على الخبرات التي راكمناها من التجارب وهِمم فريقنا من أجل نقل صورة السوريين وروايتهم المفقودة أو المُغيَّبة. نعم إنه “سوريّ” أيضا، كما يقول أحد الصحفيين في الغرفة، في انتقادٍ للتغطية الإعلامية العربية والعالمية للزلزال، وهذه بلداتنا ومدننا وخيامنا، وهذا ما نملك من صور وفيديوهات متاحة لكم للاستخدام، وقد أرسلناها لكم جاهزة، فلماذا هذه الانتقائية؟!
كنا بلا مواربة شاشةَ السوريين المفتوحة عندما أغلقت الشاشات العربية وعجزت القنوات المحلية الصغيرة عن التعامل مع هذا الحدث الجَلل
آنذاك شعر جميع العاملين بأهميّة صوتنا في مزاحمة الرواية السائدة ذات الوجه الواحد، عبر استمرارية تغطيتنا وتسليط الضوء على حجم الكارثة التي ألمّتْ بمناطق من الشمال السوري، حتى لو تطلب الأمر التعبَ والمخاطرة. كنّا من أوائل القنوات التي فَتحت التغطية، وأول قناة عربية وصل مراسلُها أو مراسلتُها مع عربةِ البث SNG إلى أنطاكيا المدينة التي أحبَّها السوريون وابتسمتْ لهم، كنا ننقل على الهواء مباشرة صورة الطريق غير المدمّر نحو باب الهوى، لدحض رواية الأمم المتحدة. كان مراسلونا في الداخل والجنوب التركي ينامون في السيارات أو لا ينامون أصلا من أجل نقلِ الصورة لأحد الناجين أو معرفة مصير العالقين، كنا بلا مواربة شاشةَ السوريين المفتوحة عندما أغلقت الشاشات العربية وعجزت القنوات المحلية الصغيرة عن التعامل مع هذا الحدث الجَلل.
كنّا صوتا مؤثرا من أصوات عدة فرضتْ إعادةَ تسمية المسمّى القديم إلى جديد هو “زلزال تركيا وسوريا” بكل ما يفرضه ذلك من اهتمام إعلامي وسياسي بالمنطقة. وأمام هذا الواقع المتغير كان لا بد لنا من الدخول في تحدٍّ جديد تَمثَّل بنقل غرفة الأخبار من استوديوهات إسطنبول إلى مدن الشمال السوري التي تحولت ساحاتها إلى استوديوهات للتلفزيون وفريقه، بعد أن احتضنتنا بيوت أهل الكرم بمحبّةٍ حُقَّ للمرء أن يدفع حياته ثمنا لها. ثلاثة أسابيع من التغطية على مدار الساعة من داخل سوريا نقلنا كلَّ ما نستطيع في سبيل دعم شعبنا وتثبيتِ صموده في مناطقه بعد الكارثة. بالتأكيد هذا واجبنا، لكنه كان تحديا كبيرا نجحنا به وتعلمنا الكثير منه لجهة فتح التغطيات وإدارةِ النوافذ الخارجية في أوقات الحرب والكوارث الطبيعية والأحداث السياسية. من هنا، لم يكن صعبا أن يعود فريقنا مجددا إلى الشمال السوري اليوم، ليستكملَ بكل سلاسة وانسيابية تغطية الذكرى الأولى للزلزال كما يفعل دائما مع قضايا السوريين المهمة.
عامٌ جديد تبرز فيه تحديات تتطلب دائما استراتيجيات إعلامية بشكل مختلف تقطع مع التجارب السابقة التي افتقدت الحدَّ الأدنى من المهنية مقابل الاستثمار بالاستقطاب والشعبوية والخطاب الإعلامي المنحدر
مرَّ عامٌ على الزلزال والمأساة السورية ما تزال حاضرة بأشكال مختلفة، فالثورة لم تصلْ بعدُ إلى أهدافها برحيل النظام الاستبدادي ورئيسه، وتحقيقِ الانتقال الديمقراطي، في حين يستمر التراجع السياسي والعسكري مع اندفاع عارم دوليا للتطبيع مع الأسد، متناسين جرائم لا تُمحى ولا تُغتفر دون أدنى تفكيرٍ حقيقي بالخيارات الحالية والمستقبلية للنخب السورية المعارضة. عامٌ جديد تبرز فيه تحديات تتطلب دائما استراتيجيات إعلامية بشكل مختلف تقطع مع التجارب السابقة التي افتقدت الحدَّ الأدنى من المهنية مقابل الاستثمار بالاستقطاب والشعبوية والخطاب الإعلامي المنحدر، وتسعى لبناء نموذج جديد يعبّر عن نضالات السوريين في التخلص من النظام ورئيسه، والتأسيس لنظام ديمقراطي تمثيلي، فالثورةُ السورية بدأت من أجل الديمقراطية، ولن تنتهي إلا بتأسيسها من خلال خطواتٍ تبدأ بتغيير النظام كعقبة تاريخية تُعيق تطور المجتمع والدولة السورية، هذا ما نؤمن به في تلفزيون سوريا، وهذا سنعمل عليه بشكل أكبر مع انطلاقتنا الجديدة يوم 24/4/2024 حيث سنقدم تجربة جديدة كليا في المعنى والمبنى.
شارك هذا المقال
Source link