سوريا

حزن وقلق يعتري السوريين في تركيا حيال عودتهم إلى سوريا

شاهد هذا الموضوع -حزن وقلق يعتري السوريين في تركيا حيال عودتهم إلى سوريا- عبر شبكة الإعلام العربية محيط والآن الى تفاصيل الموضوع

في ساعة مبكرة من صباح 30 تشرين الثاني من عام 2024، وبُعيد ساعات من إعلان خبر خروج حلب عن سيطرة نظام الأسد، كان رامي سواس قد انطلق من بيته في غازي عنتاب التركية وركب سيارته التي أسرع بها باتجاه الحدود السورية، لأنه كان متأكداً من أن النظام سيحارب من أجل استعادة تلك المدينة، ولكن مهما قصر أمد ذلك التحرير انصب أقصى طموحه على العيش في حلب الحرة، فقد كان يحلم بالعودة إلى وطنه منذ أن وصل إلى تركيا في صيف عام 2014، وحتى يخفف من غلواء نوبات الذعر التي كانت تصيبه في منفاه، كان يسير في شوارع عنتاب العتيقة، كونها تشبه شوارع حلب التي لا تفصلها عنها سوى 96 كيلومتراً. والآن، وبفضل شركة اللوجستيات التي بقي يعمل عليها في سوريا ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة أو السيطرة التركية، حصل على تصريح يبيح له عبور الحدود ليتوجه إلى تلك المناطق على وجه الخصوص، ولكن بمجرد أن اقترب من الحاجز الحدودي، خطر بباله أن يتفقد التصريح فاكتشف أن صلاحيته ستنتهي عند الساعة الخامسة من بعد الظهر ذلك اليوم.

استطاع هذا الرجل أن يبقى في حلب لمدة عشر ساعات ثم يرجع إلى غازي عنتاب، وذلك لئلا يفترق عن أسرته، بعد أن حصلت زوجته هبة على الجنسية التركية وصار بوسعها أن تمنح الجنسية لابنتهما باميلا التي تبلغ من العمر سنتين. دخل رامي إلى تركيا قبل عشر سنوات بجواز سفره السوري ورفض أن يسجل كلاجئ فيها، مثله مثل معظم السوريين، ثم تقدم بطلب للحصول على الإقامة وإذن العمل، وصار يتقدم بالطلب لمرات ومرات قبل أن يصله أي تأكيد على إمكانية تجديده. وعند حصوله على التجديد، يأتيه الخبر في اللحظة الأخيرة، ولفترة غير متوقعة، وهكذا عاش في غازي عنتاب لأنه كان يريد أن يبقى قريباً من حلب قدر الإمكان، على أمل أن يأتي يوم كذلك اليوم. ومنذ أن ولدت باميلا، صار رامي يشغل لها فيديوهات عن حلب ويقول: “لديك جنسية في هذا البلد، لكنك لست منه، لأن أصولك تعود لحلب، وتعيشين هنا لفترة مؤقتة، وسترين حلب يوماً ما”.

مع انهيار نظام الأسد في كانون الأول الماضي، أصبح السؤال: كم سيعود من الستة ملايين سوري نزحوا من بلدهم خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية؟ لهذا السؤال تداعيات ليس فقط على السوريين أنفسهم، بل أيضاً على الدول التي استقبلتهم. إذ أينما حط السوريون رحالهم، أصبح وجودهم المسيس مسؤولية في عنق الحكومات التي وصلت إلى السلطة ووقوداً لمعارضيها. وفي الوقت الذي استقبلت أوروبا قرابة مليون سوري، توزع معظم السوريين على أنحاء مختلفة من الحدود السورية مع الأردن ولبنان وتركيا، تلك التي استقبلت أكثر من ثلاثة ملايين وخمسمئة ألف سوري، ومنذ عام 2014، أصبحت تركيا أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم.

بصيص من الأمل

في بداية الأمر رحبت تركيا بالسوريين، بيد أن هذا الترحيب تحول إلى عداء منذ أمد بعيد، فبات من المعهود أن يصادف المرء حالة إصرار على كره الأجنبي تؤكد ضرورة عودة السوريين إلى وطنهم بدلاً من أن يندمجوا مع المجتمع التركي، وكان نهج تركيا القائم على تقبل اللاجئين السوريين نموذجاً يحتذى لطريقة التعامل مع الهاربين من الحرب، غير أن هذا الحل الذي من المفترض أنه مثالي صار بعيداً كل البعد عن طريقة تعامل الأتراك مع السوريين طوال سنين خلت، ولم يعد هذا الحل قائماً في مناطق مثل غازي عنتاب وغيرها من المدن الحدودية التي تفصل وتربط ما بين مصير سوريا وتركيا، وخاصة في وقت الأزمات، والآن، وبعد سنوات من الجمود الذي كان بادياً على الأوضاع في سوريا، فتح سقوط النظام بالنسبة للسوريين المقيمين في تركيا بصيص أمل وسط حالة من الوجود المتقلقل الذي شهد حالات تحقير وعنف بين الفينة والفينة في البلد الذي كان ملاذاً لهم.

في اليوم الذي فقد النظام السيطرة على مدينة حلب، وصل رامي خلال سبع دقائق إلى البيت الذي عاش فيه طفولته، وذلك بحسب تطبيق تحديد الموقع الجغرافي الموجود في سيارته، وذلك قبل أن يتعرض الثوار في مدينته إلى قصف مكثف، وفي تلك اللحظة، اتخذ رامي قراره إما بالعودة إلى غازي عنتاب أو بالبقاء في الداخل السوري عند انتهاء صلاحية الإذن الممنوح له، لكنه فكر بباميلا وهذا ما جعله يرجع عن قراره، وهكذا عبر الحدود التركية عند الساعة الرابعة وخمسين دقيقة عصراً قبل عشر دقائق من الموعد المحدد لانتهاء صلاحية الإذن.

وطوال الأيام السبعة التالية، جافاه النوم، وأصابته حمى، وتقلب مزاجه بين الفرحة العارمة والقلق والخوف. ولكن عندما فر بشار الأسد من البلد، احتفل رامي مع السوريين في غازي عنتاب، الذين انتابتهم موجة راحة وفُتحت أمامهم الاحتمالات. إذ عقب هروب الأسد مباشرة، توجه آلاف السوريين المقيمين في تركيا نحو الحدود وعادوا إلى وطنهم، فيما يستعد غيرهم الكثير حتى يحذوا حذوهم. ولكن سرعان ما اتضح بأن قرار الرحيل عن تركيا ما هو إلا قرار فردي شخصي، تماماً كما كان حال قرار الهروب من سوريا.

بالنسبة لبعض السوريين المقيمين في تركيا، كان النظام هو الحائل الوحيد الذي يمنعهم من العودة إلى وطنهم، أما بالنسبة لكثيرين، فإن حساباتهم بخصوص العودة الآن أصبحت أكثر تعقيداً بكثير، إذ هنالك عوامل كثيرة تدخل في الحسبة، أولها الوضع القانوني للسوري في تركيا، والثروة التي يملكها، والمنطقة التي يعود إليها أصله في سوريا، والسبب الذي دفعه إلى الرحيل، وما الذي تبقى من بيته ومن أهله هناك، وما مدى رغبته بتحمل الوضع غير المستقر والمجهول بالنسبة لمستقبل سوريا. فكثير من السوريين دمرت بيوتهم أو احتلها من سكن فيها، وهؤلاء معظمهم نازحون، أو أن تلك البيوت تحولت إلى مستودعات لذكريات مريعة لدرجة لم تعد معها حقيقة هروب الأسد الصارخة تكفي لتحويل سوريا إلى حضن يستوعب السوريين كافة من جديد.

سوريا فرصة وورطة بالنسبة لتركيا

قبل الربيع العربي الذي بدأ في عام 2011، كانت سوريا وتركيا تعيشان حالة تقارب بعد قرابة قرن من العلاقات التي يمكن أن توصف بالمتوترة في أحسن الأحوال، وغدت العلاقة بين الرئيس رجب طيب أردوغان والمخلوع بشار الأسد دافئة للغاية لدرجة دفعت الرجلين لأن يخرجا في عطلة سوية برفقة أسرتيهما في إحدى المرات. وعندما بدأ السوريون بالتظاهر السلمي من أجل الإصلاحات، قبل أن يطالبوا بإسقاط النظام، نصح أردوغان الأسد بأن يصغي لمطالب شعبه، غير أن الأسد انتهج أسلوباً أشد دموية، لذا سرعان ما ظهر هذا الشرخ في علاقتهما وبالتالي بين بلديهما.

اعتبر أردوغان ثورات الربيع العربي بمثابة فرصة، إذ منذ أن أسست تركيا جمهوريتها، رسمت مستقبلها بناء على قطيعة واضحة مع ماضي تركيا العثماني، ذلك الماضي الذي حكمت فيه القسطنطينية سوريا، غير أن أردوغان اعتنق ذلك الماضي بكل صراحة ليكون وسيلته لتحويل تركيا إلى قوة عظمى، ولهذا يقول عنه أستاذ علم الاجتماع كريم مورغول من جامعة إيلون في كارولينا الشمالية بأنه: “مولع بالإمبراطوريات، فقد وعد باسترجاع عظمة تركيا عبر إحياء تراثها الإسلامي العثماني بما أن ذلك هو المصدر الأساسي للقوة الناعمة في المنطقة، وخاصة في المناطق التي كانت تتبع للدولة العثمانية في السابق، أي لخلق ما يعرف بالسلام العثماني”. وهكذا، انحازت تركيا علناً للمعارضة السورية المناهضة للأسد التي احتمت بها، ويقصد بذلك المعارضة المدنية وتلك المعارضة التي تضم العساكر والضباط المنشقين عن جيش الأسد والذين شكلوا الجيش السوري الحر.

وعندما بدأ اللاجئون السوريون بالهروب من القمع الوحشي لنظام الأسد والذي انصب على المدنيين، أخذ أردوغان يرحب بهم في بلده عبر سياسة الباب المفتوح، مستحضراً تلك الفترة في التاريخ الإسلامي التي لجأ بها أوائل المسلمين الهاربين من مكة إلى المدينة حيث آواهم الأنصار وشدوا أزرهم. وهكذا جرى الاعتراف بالسوريين رسمياً على أنهم “ضيوف”، لا لاجئين أو طالبي لجوء يتمتعون بحقوق معينة، وأقيمت لهم مخيمات على الحدود.

63

خلال الأيام الأولى من توافد السوريين، يحدثنا أيهان كايا وهو متخصص بالعلوم السياسية في جامعة العلوم بإسطنبول مهتم بشؤون الهجرة، بأن رسالة وزير الخارجية آنذاك، أحمد داوود أوغلو، للأتراك كانت تقوم بصورة أساسية على الآتي: لا تقلقوا لأننا لن نستقبل أكثر من مئة ألف لاجئ سوري على أبعد تقدير، كما أن سقوط الأسد لن يستغرق أكثر من ستة أشهر تقريباً.

عندما تبين بأن السوريين لن يرحلوا عن تركيا خلال فترة قريبة، أصدرت الحكومة التركية قانون الحماية المؤقتة في عام 2014، والذي يسمح للمواطنين السوريين بالحصول على التعليم في تركيا وعلى خدمات الرعاية الصحية كما أرسى دعائم وأسس حصولهم على وظيفة في حال تأمينهم لإذن عمل.

خرج السوريون من المخيمات، فتركزت نسبة كبيرة منهم بالقرب من الحدود، باستثناء عدد كبير من السوريين المقيمين في إسطنبول وغيرها من المدن التركية. ثم افتتحوا مشاريعاً تجارية، واستأجروا الشقق السكنية، وتحولوا إلى عمالة رخيصة ماهرة، وبسبب استحالة الحصول على تصاريح العمل، أصبح أرباب العمل الأتراك يوظفون السوريين بأجر زهيد، وقد عبر كايا عن ذلك بقوله: “إن السوريين أشبه برقيق في عصرنا هذا، فقد حقق من خلالهم الإسلاميون المتدينون من النخبة الاقتصادية المحافظة أموالاً طائلة، وللتستر على هذا الواقع، استعانوا بالخطاب الإسلامي الذي يرتكز على فكرة الأنصار”.

فرضت قيود على السوريين بالنسبة للإقامة والعمل فقط في الولاية التي سجلوا فيها، بل حتى السفر لمدة يوم واحد بات يحتاج إلى تصريح بالنسبة للسوريين، في حين أن أي تغييرات تطرأ على المحل الذي سجلوا فيه تحتاج إلى إجراءات مرهقة.

في خريف عام 2015، ومع ازدياد الوضع في سوريا سوءاً، سجلت تركيا مليوني لاجئ سوري، وهذا العدد كان بعيداً كل البعد عن الأعداد التي وعدت الحكومة الشعب التركي بها، وفي الوقت ذاته، رحل نحو مليون لاجئ معظمهم سوريون أو اكتفوا بالمرور عبر تركيا، وذلك عندما احتشدوا على متن القوارب المطاطية أو الخشبية المتوجهة نحو اليونان، ليصلوا في نهاية المقام إلى وجهتين رئيسيتين وهما ألمانيا والسويد.

تذكر الاتحاد الأوروبي عند تسهيل عبور اللاجئين لحدوده (على الرغم من تعرض الآلاف منهم للموت في سبيل ذلك) ذلك القرب المقلق الذي تتسم به تلك الدول التي تقع على الطرف الآخر من البحر المتوسط، فسعى لعقد اتفاق مع تركيا أقر في آذار 2016، إذ مقابل مبلغ قدره ستة مليارات يورو، صار من واجب تركيا منع عمليات الرحيل، واحتجاز اللاجئين السوريين في تركيا، وقبول عودة المهاجرين القادمين من اليونان، وفي تلك الأثناء أنهت تركيا العمل بسياسة الباب المفتوح، إذ أغلقت حدودها الجنوبية، وأوقفت تسجيل الوافدين الجدد من سوريا، كما بدأت ببناء جدار حدودي لمنع عمليات العبور غير النظامية من سوريا.

يعلق على ذلك م. مراد أردوغان، وهو خبير بشؤون الهجرة وواضع دراسة سنوية بعنوان: “البارومتر السوري” ولا علاقة تربطه بالرئيس أردوغان، فيقول: “انصب اهتمام الاتحاد الأوروبي على هدف وحيد وهو وقف تدفق اللاجئين، ولهذا أصبحت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي زبائنية، لأن الاتحاد الأوروبي لم ير في تركيا دولة مرشحة للإنضمام إليه، بل شريكاً استراتيجياً لوقف تدفق اللاجئين”.

ظن كثير من السوريين بأنه من الأفضل لهم البقاء في تركيا بالقرب من أهلهم ووطنهم، بما أن كثيرين ظلوا يحلمون بالعودة، وكانت الحكومة المركزية في أنقرة سنت سياسات تخص السوريين في تركيا، يترتب من خلالها على عاتق المدن التي يقيم بها السوريون أن ترتب أمورهم وتستوعبهم، فقد تضخم عدد سكان غازي عنتاب التي يقيم بها رامي بنسبة الثلث بفضل تدفق 500 ألف سوري عليها، ويعلق محمد عبد الله آكسوي وهو نائب الأمين العام لبلدية غازي عنتاب بالقول: “كان علينا أن نعيد ابتداع أنفسنا”.

“كبش فداء”

وفي عام 2018، تراجع الاقتصاد التركي الذي شهد ازدهاراً في السابق، فارتفعت أسعار الأغذية بنسبة كبيرة، ما دفع البلديات لإقامة أكشاك لبيع الأغذية مخصصة للأتراك بحيث يمكنهم شراء تلك المواد بسعر يقل عن نصف سعرها في المتاجر الكبرى. وعلى الرغم من المعاناة الاقتصادية التي عاشها الشعب التركي بسبب السياسات المالية غير التقليدية والتي قوبلت بانتقاد شديد بعد أن سنها وزير المالية.

وهكذا تحول السوريون إلى “كبش فداء لكل الشرور” برأي كايا، كما أصبحوا جزءاً من الحرب الداخلية المستعرة حول شخصية البلد وهويتها، والتي شعر الأتراك غير المتدينين والذين لديهم توجهات نحو أوروبا بأنها أصبحت تفقد هويتها بشكل مطرد منذ أن تولى أردوغان السلطة، إذ بالنسبة لهم، كان أردوغان يستورد جمهوراً من الناخبين المستعدين لبذل الولاء له، وقد تعززت تلك المخاوف عندما أعلن أردوغان عن منح الجنسية التركية لبعض السوريين من خلال عملية بقيت غامضة بالنسبة للسوريين والأتراك على حد سواء، إذ في عام 2022، أعلنت تركيا بأنها جنست 200 ألف سوري، وفي الوقت ذاته، وحتى تسترضي من لديهم مشاعر معادية للسوريين، فرضت إجراءات “ترشيدية” جديدة تمنع انتقال مزيد من السوريين إلى 1169 حياً في 63 ولاية من أصل 81 ولاية تركية.

بمجرد تخفيف قيود السفر التي فرضت عند تفشي جائحة كوفيد، عاود السوريون السفر إلى أوروبا، وكان بينهم سوريون يحملون الجنسية التركية لاعتقادهم بأنهم لن يحظوا بالقبول في هذا البلد بصفتهم “أتراكاً حقيقيين”، أما من قرروا البقاء، فقد نبع قرارهم من أنهم عدموا الوسيلة لتحقيق ذلك، لا رغبة منهم بالبقاء، بما أن معظم طرقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، سواء البرية منها أو البحرية، تكلف الكثير كما أنها محفوفة بالمخاطر.

لا “عذر” للبقاء

والآن، ومع سقوط النظام، سقط من جديد القرار القاضي باجتثاث حياتهم من هذا البلد على رأس اللاجئين السوريين في تركيا، إذ تتوقع اللاجئة السورية كندة حواصلي، وهي باحثة لدى مركز الحوار السوري بإسطنبول، بأن الناس سيفكرون بأمر العودة بحذر، وسيبدؤون برحلات استطلاعية عبر موجات متعددة، وسيزداد هذا النشاط بعد انتهاء العام الدراسي في شهر حزيران المقبل. كما لا يتوقع مراد أردوغان عودة السوريين بأعداد كبيرة على المدى القريب، لكنه ذكر بأن المجتمع التركي صار يتوقع من السوريين أن يرحلوا، ويتفق معه مورغول الذي يرجح للضغط من أجل عودة السوريين إلى بلدهم بأن يزداد كثيراً، ولهذا يقول: “ذكرت عدة شخصيات من المعارضة بأن اللاجئين لم يعد لديهم أي “عذر” للبقاء في تركيا”.

كان رامي متلهفاً للعودة إلى حلب والبدء بالبحث عن فرص للحياة التي سيعيشها هناك مستقبلاً بمجرد أن يحصل على إذن للقيام بذلك، غير أن كثيراً من اللاجئين غيره بقيت الصورة غير واضحة أمامهم، إذ في الوقت الذي تشاطر السوريون الفرحة العامة العارمة بانتهاء عقود من الاستبداد في بلدهم الأم، أحس هؤلاء بأن عليهم التفكير بالوقائع والتفاصيل المتعلقة بأمر العودة للعيش في بلدهم. وبالنسبة لكثيرين، فإن صدمة أيامهم الأخيرة في سوريا تصعّب عليهم أمر التفكير في العودة.

الصيف الذي طال ولما ينته

عندما نزل السوريون إلى الشوارع في احتجاجات سلمية ضمن موجة الربيع العربي، كان من بينهم أحمد الخالدي، وهو ناشط سلمي علماني كان يعيش في مدينة دير الزور، وكان متفائلاً إلى أبعد الحدود وقتئذ، حتى بعد أن طعنه أحد مؤيدي النظام في يده، فقطع أعصابها وتركه بعد تلك الحادثة أكتع. في ذلك الحين، لم يفكر أحمد ولا زوجته أريج التي كان يعمل معها في مجال التدريس بالرحيل عن سوريا، لأنهما كانا مؤمنين بأن مستقبلاً أفضل ينتظرهما لامحالة، حتى إن عرقل ما أتى بعد ذلك حياتهما أكثر من مرة.

لم يستثن قصف النظام السوري للمدن مدينة دير الزور التي فر منها أحمد وأريج برفقة أولادهما الخمسة إلى حلب وانتظرا حتى ينتهي القصف الذي يستهدف مدينتهما، وفي غضون أسابيع، أصبحت تلك المدينة أيضاً تحت النار، ولهذا رحلا عنها مرة أخرى، متوجهين إلى تدمر هذه المرة، تلك المدينة التي تزخر بالآثار الرومانية العريقة (كما اشتهرت بسجنها سيئ الصيت)، وبقيا يعتقدان حتى نهاية صيف ذلك العام بأن بوسعهما العودة إلى دير الزور، ولعل ذلك قد يحدث عند بدء العام الدراسي. وهكذا طال الصيف في تدمر فامتد إلى ثلاث سنوات تقريباً، إذ في تلك الأثناء سيطر تنظيم الدولة على مدينة دير الزور في ربيع عام 2014 ما جعل عودتهما إلى دارهما ضرباً من المستحيل. ثم في ربيع عام 2015، وبعد مرور أربع سنوات على الحرب بقيا خلالها متمسكين بكل عناد بقانون الاحتمالات وبحقوق الإنسان وبالمجتمع الدولي، دفعتهما سلسلة من الأحداث إلى الرحيل عن البلد.

دير الزور

إذ في البداية، وتحديداً في 23 آذار، أصبحت تدمر تحت سيطرة نظام الأسد، فاعتقل ضباط المخابرات العسكرية أحمد، وبعد عدة جلسات تعذيب أخبروه خلالها بأنهم يشكون بأنه -هو الناشط السلمي العلماني- قد انتسب إلى جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة. وفي تلك الأثناء، تقدم تنظيم الدولة الإسلامية، وهو منافس لجبهة النصرة، نحو تدمر. وفي الوقت الذي أخذ المجتمع الدولي يعرب عن نقمته بسبب سيطرة تنظيم الدولة على تدمر وكيف سينعكس ذلك على الآثار الرومانية والأوابد الموجودة فيها، ويفكر بطريقة لإخراج القطع الأثرية من هناك، لم يفكر أحد بطريقة لإخلاء السوريين الذين أصبحوا بين نارين: نار تنظيم الدولة من طرف، ونار النظام من طرف آخر، وكانت بينهم أريج وأولادها.

وفي توليفة عبثية اختلط فيها الحظ الطيب بالعاثر، سيطر عناصر تنظيم الدولة على الحي الذي كانوا يقيمون فيه، وكذلك على السجن الذي احتُجز فيه أحمد، فحرروه وأعادوه إلى أريج، وعندما تركوه على عتبة باب البيت، بعد شهرين أمضاهما في سجن النظام، بدا وكأنه قد وصل لآخر أيامه، فقد كان جلده قد اسود، وجحظت عيناه بشكل ملحوظ.

أمضت الأسرة الأسابيع التالية وهي تحاول أن تساعد أحمد على استرجاع عافيته، وعملت أريج على تطبيب جروحه الجسدية والروحية، إذ كان أحمد يصرخ فزعاً على أسرته من أي شيء يفوق تصوراتها، كما أكل الجرب معظم جلد ذراعيه وساقيه، لدرجة أن أريج عندما كانت تضع المرهم على جسده، كانت ترى بعينيها الدود وهو يدخل ويخرج ويلتهم جسده، بل إنها كانت تسمع صوته وهو يقرصه، وحتى ملمس قماش ثيابه أضحى موجعاً بالنسبة له.

لم يتعافَ أحمد بشكل كامل بعد مرور ستة أسابيع من إطلاق سراحه، وذلك عندما أتى مقاتلان تابعان لتنظيم الدولة ليتحدثا إليه، وبعد أن خرجا، اتكأ أحمد بجسده الهش على الجدار ليستجمع نفسه، وبما أن تنظيم الدولة منع النساء من الظهور أمام الرجال، لذا بقيت أريج تحاول أن تستوعب ما الذي يريدونه وهي تراقبهم من نافذة صغيرة فوق الباب، من دون أن تتمكن من سماع ما يقولونه، ولكن عندما كان أحمد يصغي للمسلحين، رأته أريج وهو ينزلق من على الجدار، كمن يهوي من وقع الكلام، وبمجرد أن رحلا، زحف أحمد نحو الداخل، وبدأ يصرخ بشكل هستيري وهو يقول: “أغلقوا أبواب والنوافذ!”

تجمعت الأسرة حوله وسألته عما جرى فقال: “تنظيم الدولة يريد تزويج ماري وشغف لأمير الرقة”، وماري وشغف هما ابنتا أحمد واللتين كان عمرهما وقتئذ 18 و16 عاماً. وفي صباح اليوم التالي، كان العنصران سيعودان إليهم، ولهذا رتب أحمد وأريج أمور رحيل الأسرة عن تدمر على الفور.

“العفاريت الذين خرجوا من تحت الأرض”

عند الساعة الثالثة فجراً، هربت شاحنة للقمامة تلك الأسرة من دون متعلقاتها، وأوصلتهم إلى ريف دير الزور عند حلول الفجر، إذ كانت الأسرة بحاجة للوثائق التي تركوها عن غير قصد هناك في الدير في عام 2012 ليبدؤوا حياة جديدة خارج سوريا، بعد أن أصبح أحمد مطلوباً في مناطق النظام بسبب هروبه من السجن، ومن المستحيل العودة للعيش تحت حكم تنظيم الدولة، ولذلك قررت الأسرة العبور نحو تركيا ومن ثم اللحاق بشقيق أحمد في السعودية.

وجدوا الدير مدينة أشباح، بعد أن كانت المدينة وبيتهم مصدراً للبهجة، كما رغبت أريج برؤية النهر وأشجاره، لأنها تعرف أنها لن تعود، وحتى إن لم يكن ذلك للأبد، لكنه سيمتد لفترة طويلة جداً. وهكذا زارت الأسرة بيتها في المدينة للمرة الأخيرة، فاكتشفت بأن الأبواب مفتوحة والنوافذ مكسورة، وداخل البيت، رفعت أريج النقاب الذي فرضه تنظيم الدولة على كل النساء، وذلك حتى تتمكن من رؤية الخراب بشكل أوضح، لكنها أخطأت عندما لم تسدله قبل أن تخرج من البيت.

في تلك اللحظة بالذات، عبرت سيارة للحسبة تابعة لتنظيم الدولة، ولهذا فانعطفت وأخذ ركابها يصرخون: “لماذا لا ترتدين النقاب؟”، ومن لهجتهم عرفت أريح بأنهم أبناء البلد، لكنها لم تتعرف عليهم، ولهذا تقول: “تحس وكأنهم عفاريت خرجوا من تحت الأرض”.

صادرت دورية الحسبة هويتي أحمد وأريج، واللتين من دونهما لا يمكنهما الخروج من سوريا، كما لا يمكنهما استعادتهما إلا بعد مراجعة مقر الحسبة، حيث يتعين عليهما دفع غرامة بسبب رفع النقاب. اعتقد أحمد وأريج بأن الأمر كما سمعوا يقتصر على دفع المال وسماع بعض المواعظ، وبعدها سينتهي الأمر، ولهذا جمعوا كل ما بوسعهم جمعه من مال لديهم وتوجهوا نحو مقر الحسبة، وهو منزل انتزعه تنظيم الدولة من إحدى الأسر السورية، وكان أحمد وأريج يعرفانه حق المعرفة من خلال شجرة الصفصاف الكبيرة التي تميزه، إذ لديهما ذكريات جميلة في شوارع ذلك الحي، كما كانا يقطعان الشارع الذي يفضي إلى النهر حيث تعرفا للمرة الأولى وتحابا.

داخل ذلك البيت، أُمرا بالوقوف أمام رجل سعودي ليحكم في قضيتهما، على الرغم من أن أحمد لم يكن يقوى على الوقوف من دون أن يسنده أحد، وبجانبه أخفت أريج وجهها بالكامل تحت النقاب، فما كان من القاضي إلا أن وبخ أحمداً قائلاً: “لو كان لديك شرف، لما سمحت لزوجته بالخروج كاشفة عن وجهها”. وعند صدور الحكم، لم يستوعب أحمد وأريج ما سمعاه، كما لم يستوعبا كيف سينفذ ذلك الحكم، إذ حكم القاضي بأن يجلد أحمد أريجاً أمام الحضور على ظهرها 25 جلدة.

في البداية رفض أحمد تنفيذ الحكم وهو يفكر بأنه لو كان يعرف بأن العقوبة ستكون كذلك لفر هو وأسرته ولتذهب الهويتان إلى الجحيم، ولكن القاضي أصر على أن أحمد هو المسؤول عن أريج، ولهذا عليه أن “يؤدبها” فاقشعر بدن أحمد من بشاعة تلك الكلمة.

سجون داعش

أعطوه عصا خشبية وطلبوا منه البدء، ثم هدده أحدهم بقوله: “إن لم تجلدها، فسيفعل أحدنا ذلك”.

همست أريج لأحمد من تحت نقابها بأن يمتثل للأمر وهي تتخيل السيناريو البديل، فقالت له: “أطعهم يا أحمد، فقد أمروك بجلدي، فافعل، لأننا لا نعرف ما هو البديل”، ثم استدارت وقدمت ظهرها له.

أمره القاضي: “اضربها جيداً، لأنك إن لم تفعل، فسنبدأ العد من جديد”.

هتف أحمد: “لا أستطيع يا أريج”، ولهذا كانت أول ضربتين خفيفتين ولم تشعر بهما أريج، فصرخ به أحد الرجال: “لن تسير الأمور هكذا.. ارفع ذراعك واضرب!”، وأخذ يمثل لأحمد كيف يتعين عليه أن يجلد زوجته التي توسلت إليه بالقول: “اضربني يا أحمد ودع الأمور تمر على خير”.

فضربها، ثم اعتذر، ثم ضربها واعتذر، ومع كل جلدة كان يقول: “آسف يا أريج”.

بقي الجلاوزة يقولون له: “أقوى”، وبعد كل ضربة يعتبرونها غير قوية، كانوا يشرعون العد من جديد.

لم يجرؤ أحمد على البكاء حتى لا يعتبرونه متعاطفاً مع زوجته أشد التعاطف، لكن بعد كل ضربة واعتذار وعند وصوله إلى الجلدة رقم 25 وبعد كل بداية عد من جديد، كانت أريج قد تلقت ما يقرب من خمسين جلدة.

بالكاد استطاعت أريج أن تتحرك، أما أحمد فلم يستطع أن ينظر إليها، وفي نهاية المطاف سُمح لهما بالخروج، فعادا إلى القرية وقد خيم الصمت والوجوم على وجوه الأسرة.

منذ أن أطلق سراح أحمد، صارت أريج تنام بجانبه من دون أن تلمسه، إذ بعد تعرضه للجرب، لم يعد يطيق أي احتكاك، وبعد تلك الحادثة، لم تستطع أريج أن تتمدد أو تستلقي، كما لم تعد تطيق أن يلمسها أي شيء.

تعلق أريج على ما حدث بقولها: “ستكتشفون قصصاً درامية وتجارب غير طبيعية لدى كل أسرة سورية، ولكن في نهاية المطاف ستستمر الحياة، وعليك أن تمضي في سبيلها من أجل أولادك”.

وهكذا وصلت الأسرة إلى تركيا في آب من عام 2015.

كان رامي في تلك الفترة في الثانية والعشرين من عمره، بعد أن أمضى سنة في تركيا قوبل خلالها بكثير من التعاطف بين عامة الأتراك تجاه السوريين، إذ وصل رامي إلى غازي عنتاب مباشرة بعد فترة اعتقال قصيرة أمضاها في أحد سجون النظام، بعد أن وشى به أحد زملائه في الجامعة إثر تأسيسه لمدونة داعمة للثورة لا تحمل أي اسم، ثم أطلق النظام سراحه بعد اعتقال وتعذيب امتد لأربعة أيام فقط وذلك لأن أباه بوصفه رجل أعمال دفع رشوة قدرها 65 ألف دولار مقابل إطلاق سراح ابنه.

“الكفاح يقويك”

خلال الأشهر الستة الأولى التي أمضاها في تركيا، غرق رامي في اكتئاب شديد، فقد خسر حلب التي تركها وخسر معها إحساسه بذاته، لكنه أخرج نفسه من ذلك الاكتئاب عبر الالتفات إلى يوتيوب حيث عثر على فيديو بعنوان: “الكفاح يقويك” والذي أعده ويليام هوليز وهو ناشط أميركي من أصول إفريقية يعمل على تحفيز الناس، وهذا الفيديو غيره، فخضع لدورات في الغزل، وحصل على شهادة أستاذ في هذا المجال ثم عثر على عمل بمجال الإعلام لدى جامعة بغازي عنتاب، ثم التحق هناك ببعض الدورات، وبقي يخطط لإقامة الشركة التي حلم بتأسيسها في يوم من الأيام، بل إنه صمم شعارها أيضاً، وفي صيف ذلك العام، وعند توجه أصدقائه وأقاربه نحو البحر، لم يفكر بمرافقتهم، لأنه لا يريد أن يتأخر عن تأسيس حياته المهنية، كما لايريد أن يبقى معتمداً في معيشته على المساعدات وانتظار بيروقراطية الاتحاد الأوروبي حتى تبت بأمره.

بلد يمر بموجة العنصرية

صمد رامي في وجه تقلبات بلده الجديد بل إنه بدأ بتأسيس مشروع تجاري باسمه، والذي خصصه للأمور اللوجستية المتعلقة بالمساعدات التي تعبر الحدود وبالأمور التنموية. ولكن ظهرت قيود حدت من مدى توسعه، وذلك لأنه لم يستطع أن يقيم المخاطر كما يفعل الأتراك، بصرف النظر عن مدى رغبته بتحقيق ذلك، كما أنه بوسع الأتراك أن يدفعوا ما تعادل نسبته 10% من قيمة المشروع حتى يحصلوا على قرض يغطي بقية التكاليف، في حين يتعين على السوري أن يكون بحوزته المبلغ كاملاً. وهكذا استطاع رامي استئجار مساحة مخصصة للمكاتب، والتي كانت أكبر فخ واجه مشروعه، لكنه انتقل عدة مرات عندما تدهورت الأمور، إذ يخبرنا بأنه غير مكاتبه ست مرات خلال أربع سنوات، ويعود سبب ذلك أحياناً إلى رغبة صاحب العقار التركي بفسخ العقد، وفي مرات أخرى بسبب قيامه بالعمل من دون أن يحصل على أي أجر، ويعلق على ذلك بقوله: “لا يوجد قانون هنا بالنسبة للسوريين”.

على الرغم من أنه يحب تركيا وتعلم لغتها، تقدم بطلب للهجرة إلى كندا، بعد أن ندم أشد الندم على رفضه في السابق أن يتحول إلى لاجئ ولأنه لم يسافر إلى أوروبا في عام 2015. وفي الوقت ذاته، بقي يسعى وراء رزقه، ويعود أحد أسباب ذلك إلى خوفه من الرجوع إلى الاكتئاب من جديد، لأن هذا الخوف جعله يفعل كل شيء يشعره بوجوده على حد تعبيره.

غير أنه بقي يتذكر على الدوام بأن وجوده ليس محل ترحيب في تركيا، فقد انقضت أيام التعاطف مع معاناة السوريين، كما أن الأتراك كثيراً ما يقولون له بأن كل ما حصله في حياته أتاه من “أموالهم” بما أنه سوري (على الرغم من أن رامي لم يتلق أي مساعدات). وعلى الرغم من أن رامي محروم من التصويت ومع قلة عدد السوريين الذين حصلوا على الجنسية التركية، بقي الأتراك يقولون لرامي: “ستصوت لصالح حزب العدالة والتنمية” أي حزب أردوغان، كما كانوا يقولون له بأن السوريين: “لا يدفعون الضرائب” (فما كان من رامي إلا أن أبرز الدليل الموجود في هاتفه وهو دفعه لمبلغ يعادل 25 ألف دولار بالسنة كضرائب).

ولكن هنالك سلوك عنصري أشد دهاء، إذ عندما يتكلم رامي بالتركية سواء في أحد الأسواق التجارية أو في مكتب حكومي، فإن التركي الذي يتحدث إليه يدعي على الفور بأنه لم يفهم كلمة مما قاله بمجرد أن يلاحظ تسرب لهجته السورية إلى حديثه، وفي المطار عندما كان رامي متوجهاً إلى دبي كغيره من رجال الأعمال، استوقفوه وطلبوا جواز سفره السوري اعتقاداً منهم بأنه مزور، فسألهم رامي كيف يمكن لذلك أن يحدث وجوازه يحمل أختام دخول عديدة من عدة دول، بينها تركيا؟!

عندما تراجعت طموحات رامي المهنية خطوة أو خطوتين للوراء، أصبحت حياته الشخصية بمنتهى السعادة، فقد أغرم بصديقته المفضلة، وهي سورية التقاها في تركيا، اسمها هبة، خريجة إحدى الجامعات التركية، والتي كانت تسعى للحصول على شهادة الماجستير، ولقد استدعيت للحصول على الجنسية التركية خلال فترة دراستها، وحصلت عليها بالفعل. فافتتح الثنائي، شركة We+ التي حلم رامي بتأسيسها، وأثناء فترة الجائحة، تزوجا وعاشا سوية، غير أن فترة إقامتها في الشقة الجديدة كانت قصيرة.

إسطنبول

أثناء قيام هبة بالرجوع بسيارتها إلى الخلف في المرآب المخصص للبناء الذين يسكنون فيه، صدمت سيارة أحد الجيران الأتراك، وعلى الرغم من عدم حدوث أي أضرار في سيارته وسيارتها، احتشد على الفور ما لا يقل عن عشرة أتراك، وأخذوا يصرخون في وجه هبة، ولم تكن شكواهم متعلقة بما أصاب السيارة بل بوجود السوريين الذين استولوا على البلد والذين بات عليهم الرحيل.

بعد تلك الحادثة، أرشد أحد أصدقاء رامي، وهو بولندي كان يلعب لصالح فريق كرة القدم بغازي عنتاب إلى بناء معظم سكانه من الأجانب، إذ فيه موظفون لدى إحدى القنصليات ورياضيون وأتراك من الطبقة المتسامحة، وقد اعتمد سكان هذا البناء سياسة غير مكتوبة ألا وهي: لا للعنصرية، ولهذا انتقل الزوجان إلى الطابق التاسع من هذا البرج المؤلف من 32 طابقاً.

على الرغم من أن رامي لم يحظ بأي قبول من أي سفارة من السفارات التي تقدم بطلب للجوء إلى دولها، أخذت شركته تحقق نجاحات باهرة، إذ في عام 2022، حقق 2.4 مليون دولار من خلال مشروعه التجاري، وبنهاية ذلك العام، استقبل رامي وهبة ابنتهما باميلا، فزاد قدومها من رغبة رامي بالرحيل، إذ يقول: “هدفي من ذلك هو ألا أجعلها تعيش هنا، لأني أتخيلها وقد ذهبت إلى المدرسة، فحرمتها إحدى البنات هناك من اللعب معهن بحجة أنها أجنبية، لأني سأفقد عندئذ أعصابي”.

الكيملك والزلزال

خلال الساعات التي سبقت فجر يوم 6 شباط من عام 2023، مادت الأرض تحت المدن الحدودية التركية التي يعيش فيها مليون سوري بسبب زلزال شدته 7.8 درجة، وأعقبه زلزال آخر بلغت شدته 7.5 درجة حدث عصر اليوم ذاته. وبعد أن خمدت الهزات الارتدادية، تبين بأن ما حدث كان أسوأ كارثة طبيعية حلت بتركيا في تاريخها الحديث، إذ وصل عدد القتلى إلى 52 ألفاً، وأثرت تداعياته على سياسة البلد كما زادت من تراجع التسامح التركي تجاه وجود اللاجئين السوريين بين ظهرانيهم.

عندما بدأت الزلزلة، كان أحمد في فراشه ببيته في شانلي أورفا، يتابع فيلماً، وعندما بدأ حاسوبه المحمول بالاهتزاز، استفاقت أريج في الظلمة، وصرخت: “زلزال”، فهرعت الأسرة كلها خارج الشقة ونزلت إلى العراء بملابس النوم فقط على الرغم من البرد القارص. وفي غضون ثوان، عاد أحمد إلى الشقة، فتحدثنا ابنته شغف عن مشاعرهم في تلك اللحظة وتقول: “كانت مخاوفنا أكبر من الموت”، إذ في الشقة تركوا بطاقات الكيملك المخصصة لحملة الحماية المؤقتة، بما أن حياة السوريين في تركيا تعتمد على الأوراق، ونظراً لأنهم تخلوا عن عادة الاحتفاظ بالأوراق في حقيبة معدة للرحيل بجانب الباب، كما كانوا يفعلون في سوريا، لذا فروا بجلدهم على الفور من البيت، بما أن المصائب في تركيا تقع على مراحل.

خلال تلك المرحلة كان السوريون قد تعرضوا لترويع إثر ترويع، وكل حدث مروع ينسيهم كل ما مر قبله، ولهذا أصبح السوريون يرددون خلال الأسابيع التي تلت الزلزال: “إن الشيء الوحيد الذي لم نره بعد هو الديناصورات والبراكين”، وذلك لأن هذه الكارثة كانت نقطة تحول بلاريب، كونها كشفت طبيعة الحياة التي يعيشها السوريون في تركيا. إذ ضمن المناطق المتضررة في تركيا، تعرضت أكثر من 650 ألف وحدة سكنية للتدمير أو أضحت غير قابلة للسكن بسبب الزلزالين، كما تصاعد التوتر بين النازحين السوريين الذين تشردوا مرة أخرى وبين الأتراك الذين تشردوا مثلهم، فصار السوريون يطردون من دور الإيواء والبيوت التي استأجروها، وذلك لفسح المجال أمام النازحين الأتراك، أما إعلام اليمين المتطرف فقد اتهم السوريين باحتلال بيوت الأتراك، ونهب المحال التجارية وسرقة المساعدات الإنسانية.

“سوري ولست بحاجة؟!”

ولكن قبل حدوث الزلزالين، نقل الأتراك مشاعر الازدراء والعداء تجاه السوريين من خلال زلات كثيرة اعترت تعاملاتهم اليومية، وبعد وقوع الزلزالين، أصبح السوريون في أحسن أحوالهم السبب في تردي الواقع لدى مختلف أطياف المجتمع التركي، وفي أسوأ أحوالهم تحولوا إلى كبش فداء أمام مختلف أنواع المصائب والرزايا.

وفي وصفه للوضع قبل حدوث الزلزالين، يقول مراد أردوغان: “لم يكن التلاحم الاجتماعي كافياً، إذ بعد وقوع الزلزالين أصبحنا أمام كارثة أخرى، بعد أن تفاقم وضع السوريين سوءاً، وأصبح رد فعل المجتمع التركي أوضح تجاههم مما كان عليه قبل ذلك”.

وهكذا أصبح أي تفاعل مشحوناً بالتوتر، إذ بعد مرور بضعة أيام على وقوع الزلزالين، أخذ شاب يعمل لدى جمعية إغاثة تركية يوزع الأغذية على المقيمين في مخيم غير رسمي أقيم لمن لم يتمكنوا من العودة إلى دورهم، فقدم لأحمد كيسين من الخبز عندما عرج عليه، فرفض أحمد بقوله: “أعطهما لمن يحتاجهما”، فذهل الشاب، وأبدى شيئاً من الغضب وهو يقول: “سوري ولست بحاجة؟!” ففهم أحمد بأن لسان حال هذا الشاب يقول: لم أنت هنا إن لم تكن بحاجة؟!

بعد مغادرة دور الإيواء المؤقتة، صار الأتراك والسوريون يتزاحمون على معونة الإيواء الضئيلة، كما تعرض السوريون لمعوقات جديدة، أولها بسبب القانون الذي حرمهم من حرية التنقل أثناء بحثهم عن سكن أو من أجل العثور على وظيفة جديدة في أي مكان آخر (غير أن تركيا رفعت حظر السفر عن السوريين حتى يخرجوا من مناطق الزلزال، إلا ذلك امتد لـ60 يوماً فحسب). وحتى في حال توصل السوري إلى حل خارج المنطقة التي سجل فيها للحصول على بطاقة الكيملك، لم يكن بوسعه تسجيل أولاده في المدارس أو الإقامة بصورة قانونية في ذلك المكان من دون أن يغير قيوده. ولهذا لم يعد أمام السوريين اليائسين سوى أن يعودوا إلى المناطق نفسها التي كانوا يعيشون فيها قبل الزلزال ليبحثوا لهم عن سكن هناك، لذا لا غرو إن ذكرنا بأن أسعار الإيجارات قد زادت بنسبة فاقت الضعف في المناطق التي ضربها الزلزال.

أثرت تلك الكارثة على البلد من الناحية السياسية، إذ على الرغم من أن الجميع توقع للانتخابات الوطنية التي جرت في أيار من عام 2023 أن تنصب على استجابة حكومة أردوغان للزلزال، والتي نالها نصيب كبير من الانتقاد، تبين بأن القضية المركزية التي شغلت البال حينئذ كانت “المشكلة” السورية. وخلال الأشهر التي تلت الكارثة، اتسم السباق إلى الانتخابات بانتقادات لاذعة ضد السوريين وجهتها المعارضة التركية، وكان من بينها تلك التي أطلقتها الحملة الخاصة بمرشحي ثالث حزب في البلد والتي تحولت بشكل حصري إلى منصة مناهضة للسوريين، إذ بعد الزلزالين، أصبح الخطاب الموجه ضد السوريين مسعوراً إلى أقصى درجة.

كما لم يعد الجمهور الذي ينتخب أردوغان سعيداً بوجود السوريين، وفي الوقت الذي لم يتراجع أردوغان عن خطابه تجاه السوريين ووصفهم بالضيوف والإخوة، اتخذ خطابه طابعاً جديداً، فقد تعهد بإعادة مليون سوري إلى الشمال، ولكن بطريقة طوعية، وفي أيار من عام 2023، وخلال الجولة الأولى والثانية من التصويت، أعلنت حكومة أردوغان عن بدء إنشاء 240 ألف بيت في الشمال السوري وذلك حتى يسكنها من يرحل من السوريين، إذ أصبح بوسع تركيا أن تنشط في الشمال السوري بعد عدة عمليات نفذتها ابتداء من عام 2016، ما جعل تركيا والفصائل التابعة لها يسيطرون على مساحات شاسعة هناك. وإلى جانب “إعادة” السوريين إلى مناطق لا تعود أصولهم إليها، فإن إعادة توطينهم في الشمال وإقامة منطقة عازلة للعرب السوريين لإبقاء الكرد بعيدين عن الحدود التركية، كان أشبه بهندسة ديموغرافية أرهقت السوريين ذلة.

ثم صارت تركيا ترحل السوريين إلى الشمال تحت أي حجة ومن دون أي إجراءات فعلية، وذلك منذ عام 2017، ما أثار استنكاراً لدى المنظمات الحقوقية، (على الرغم من أن الحكومة زعمت بأن عمليات الإعادة كانت طوعية، غير أنها تمثل خرقاً للقانون الدولي، وبوسع السلطات أن تحتجز السوري إلى أن تتمكن من انتزاع إقرار منه بأنه عاد إلى بلده طوعاً)، ولذلك صار السوريون يخشون من الاتصال بالشرطة للتدخل في أي نزاع، بعد أن سمعوا بأن السوري سيصبح هو المُلام بصرف النظر عمن يقع اللوم عليه فعلاً، وقد يتسبب ذلك بترحيله. وبحسب هيومان رايتس ووتش، فإن السلطات التركية رحلت أكثر من 57 ألف سوري وغيرهم من الجنسيات خلال الفترة ما بين كانون الثاني وكانون الأول من عام 2023.

الخوف من “الاستبدال العظيم”

يعلق على ذلك الباحث السوري سهيل الغازي المتخصص بشؤون اللاجئين في تركيا، فيقول: “لم تعد الكراهية تنصب على فكرة مثل: انظروا إلى هذا الشخص الذي أخذ عملي، بل صارت الكراهية أشبه بتلك الموجودة في الولايات المتحدة وأوروبا، أي الخوف من عملية استبدال عظيمة” وهو بذلك ينحي باللائمة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى السياسيين في تأجيج ذلك، ويضيف: “يعتقد كثير من الأتراك بأنه يوجد لديهم الآن عشرة ملايين لاجئ” وبأن هؤلاء اللاجئين أتوا ليحلوا محل الأتراك، وذلك اعتماداً على عقيدة خاصة بفرد أو جهة معينة ابتداء من أردوغان، مروراً بإيران وصولاً إلى الملياردير الأميركي جورج سوروس.

وصل التوتر ذروته في صيف عام 2024 بولاية قيصري عندما هاجمت حشود من الأتراك سوريين في تلك المدينة فدمرت متاجرهم وسياراتهم وممتلكاتهم وأحرقتها، بعد أن ثار غضبها بسبب مزاعم انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بأن سورياً اغتصب فتاة صغيرة. وسرعان ما تصاعد العنف في البلد كله، وذلك عندما نظمت جماعات وعصابات قومية متطرفة هجمات أخرى استهدفت عدة مدن، ما دفع بعض المنابر الإعلامية التركية لوصف الأحداث بأنها تحولت إلى مذابح جماعية، ولذلك حبس السوريون المقيمون في جميع أنحاء تركيا أنفسهم في بيوتهم بعد أن خافوا من أن يخطوا خارج باب بيتهم، سواء أكانوا لاجئين مسجلين أم غير مسجلين، أو حاصلين على إقامة قانونية أم على الجنسية التركية.

السوريون مجرد “فراطة”

أدان أردوغان العنف، واعتقلت الشرطة التركية قرابة خمسمئة تركي على خلفية أعمال الشغب، أما حزب الشعب الجمهوري، وهو أهم حزب معارض، فقد أنحى باللائمة على أردوغان الذي تسبب بخلق حالة لجوء في البلد، ومن ثم سوء إدارته لها، في حين ألقى زعيم حزب النصر اليميني المتطرف باللوم على اللاجئين السوريين “المدللين” دون غيرهم، وفي دراسة نشرتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين تبين بأن تركيا أبدت أعلى نسبة من المشاعر المعادية للاجئين بين 52 دولة أجريت فيها استطلاعات للآراء حول هذا الأمر، وبحسب دراسة نشرتها منظمة البارومتر السوري في عام 2023، فإن 40% تقريباً من الأتراك كانوا يعتقدون بأن السوريين هم مجرد أشخاص رفضوا الدفاع عن بلدهم، في حين أن 26% منهم فقط اعتبروهم ضحايا هاربين من الاضطهاد.

وحتى يتمكن أردوغان من إعادة السوريين، بذل مجهوداً إضافياً في مجال تطبيع العلاقات مع الأسد، كما فعل غيره من السياسيين في المجتمع الدولي، إذ في عام 2023 أعادت الجامعة العربية (التي كانت تضم وقتئذ 21 دولة) الأسد بعد عزله لمدة قاربت 12 عاماً، وخلال شهر تموز الماضي، أعلنت إيطاليا عن رغبتها بإعادة فتح سفارتها بدمشق، في وقت أخذ تحالف يضم عدداً من دول الاتحاد الأوروبي يضغط لإعادة العلاقات الأوروبية مع الأسد على أمل تسريع عمليات ترحيل اللاجئين السوريين. وقبل أسبوعين من بدء هجوم المعارضة واستيلائها على حلب في شهر تشرين الثاني الفائت، كرر أردوغان التزامه بالمصالحة مع النظام السوري، وأتت كل تلك المساعي في وقت كررت المنظمات الحقوقية بأن سوريا ليست آمنة بالنسبة لمن فروا من الأسد.

85

يعلق أحمد على ذلك بقوله: “خسرنا حياتنا ومستقبلنا، وتاريخنا، ومستقبل أولادنا بسبب تضارب المصالح الإقليمية والدولية، وإننا كشعب دفعنا ثمن هذا التضارب، إذ دفعناه في سوريا، ومانزال ندفعه الآن في بلدان اللجوء، ولهذا نحس بأنهم رمونا وبأننا مجرد (فراطة)”.

تغير الصورة في عيون الأتراك

بالنسبة لكل الغضب الذي أبداه الأتراك تجاه السوريين خلال السنوات القليلة الماضية، لاحظت حواصلي وجود تغير إيجابي بمجرد سقوط النظام وتناول الإعلام التركي أعمق تفاصيل هذه العملية، وعرضه على المشاهدين سلسلة السجون وطرق التعذيب التي تعود للقرون الوسطى، ولذلك تخبرنا حواصلي بأن وضع المعتقلين الذين اختفوا في غياهب السجون لفترات طويلة وظهور ذلك إلى العلن للمرة الأولى منذ عقود ترك صداه بين أوساط الشعب التركي، وعن ذلك تقول: “كانوا يقولون لنا: لم تدافعوا عن بلدكم ولهذا عليكم أن تعودوا لتدافعوا عنها، لكن هذه الصورة تغيرت اليوم”.

ولعل هذه الصورة قد تتغير أكثر بمجرد أن تبدأ عودة السوريين إلى بلدهم ويحس الأتراك بالأثر الذي خلفه رحيلهم، إذ يخبرنا رامي شراق الذي فر من سوريا في عام 2012 وهو المدير التنفيذي السابق للمنتدى الاقتصادي السوري في غازي عنتاب واليوم يعمل مستشاراً لحسابه الشخصي، بأن الاقتصاد التركي سيتعرض لهزة كبيرة في حال عودة السوريين بأعداد غفيرة إلى بلدهم. إذ بناء على تقديرات الحكومة التركية سيرجع إلى سوريا نحو مليوني سوري، لذا يقدر شراق بأن نحو 400 ألف أسرة مكونة من خمسة أفراد، وفيها ما لا يقل عن شخصين بالغين يعملان، يعني بأن 800 ألف عامل سيخرجون من الاقتصاد التركي، ويعلق على ذلك بالقول: “يمثل هؤلاء عمالة رخيصة يتوجب على أصحاب العمل تعويضها بعمالة تركية أغلى بكثير، وهذا سيرفع بالتالي تكاليف الإنتاج والاستهلاك”. وينطبق الأمر ذاته على الإيجارات التي سيخسرها ملاك البيوت الذين استغلوا القانون الذي قيد حرية السوريين في التنقل بعد الزلزال ففرضوا عليهم إيجارات باهظة لا يدفعها أي تركي.

معظم من رجعوا إلى سوريا حتى الآن كانوا ممن لا يحملون وثائق في تركيا ولا يقيمون داخلها بشكل قانوني أو كانوا يعيشون تحت تهديد مستمر بالترحيل، أو ممن ليست لديهم مملتكات شخصية أو قطع أثاث كثيرة، وهؤلاء يعيشون عادة في سكن شبابي. أما بالنسبة لحملة بطاقة الكيملك، فإن ذهابهم إلى سوريا من دون إذن يعني تخليهم عن قيودهم في تركيا (بما أن قوانين الحكومة التركية بشأن الطريقة التي يمكن من خلالها للسوريين العودة إلى بلدهم من دون أن يخسروا وضعهم القانون في تركيا تتغير على الدوام، على الرغم من أن أردوغان أعلن بأنه يمكن لمن يرغب من السوريين بالبقاء في هذا البلد)، وفي حال عودتهم، فإن السبب في ذلك يعود لامتلاك عدد كبير منهم لبيوت بوسعهم أن يرجعوا إليها، على الرغم من احتمال عدم قدرتهم على العمل مباشرة، ولهذا فضل هؤلاء العودة على العمل مقابل لاشيء يذكر في تركيا مع دفع إيجارات عالية في ذلك البلد، إلا أن الغالبية، ومعظمها أتت من مدينة حلب، فيمكن أن تعود إلى مصانعها لتعيد افتتاح معاملها وورشاتها التي نقلتها إلى تركيا عند نزوحها إلى هناك.

فرح ممزوج بالقلق

كان أحمد وأريج مع أولادهما في بيتهم بشانلي أورفا عندما تقدم الثوار نحو دمشق، بعد أن ظلوا بلا نوم طوال أيام، إذ صار كل منهم ينقل خبراً عبر منصات عديدة، منها المحطات الإخبارية، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومجموعات محادثة مختلفة وعن طريق الأهل والأصدقاء داخل سوريا وخارجها، وعندما بثت الكلمة الرسمية عن سقوط النظام قبل شروق الشمس، أخذت أريج تركض في أرجاء الشقة وعن تلك اللحظة تقول: “لم أكن أدري إلى أين أتوجه، أو ماذا عساي أن أفعل، فقد كنت فرحة وخائفة، ولم أستطع تصديق ما أسمعه، إذ بدا لي الأمر أشبه بحلم”، ثم سارعوا جميعاً لفتح الأبواب والنوافذ والخروج نحو الشرفة على الرغم من أن الظلام كان مايزال مخيماً في الخارج، وتعبر شغف التي صار عمرها الآن 25 عاماً عن تلك اللحظة، فتقول: “كانت الفرحة أكبر من أن يتسع لها البيت”.

غير أن هذه النشوة العارمة لا تترجم أو لا يمكن أن تترجم بنظر أحمد وأريج إلى نية بالعودة إلى دير الزور في المستقبل المنظور على الأقل، وذلك لأن تنظيم الدولة عاود نشاطه في شرقي سوريا، وقسد المدعومة أميركياً والتي تسيطر على أجزاء شاسعة من تلك المنطقة، دخلت في صدام الآن مع الجيش الوطني السوري، وهذا ما يجعل أحمد وأريج يتوقعان قيام نزاع في تلك المنطقة مستقبلاً، كما أنهما لا يفكران بالعودة إلى مناطق أخرى من سوريا.

يخبرنا أحمد عن رغبته بالعيش في دولة علمانية وليس في دولة تحكمها هيئة تحرير الشام، فيقول: “المشكلة ليست بالجغرافيا، بل بالسؤال: هل بوسع هؤلاء الناس الذين تولوا الأمور اليوم أن يتخذوا الخطوات الصحيحة لبناء دولة مدنية تحترم حقوق الإنسان، ونشر السلام بشكل دائم مع توفير الخدمات كلها؟” وذكر بأن إسرائيل لم تعد تبعد عن محيط دمشق سوى بضع كيلومترات، وماتزال الطائرات الأميركية تحلق في الأجواء السورية، وماتزال دول عديدة هي صاحبة القرار في سوريا، أي أنها ليست سوريا التي حلم بها عندما شارك في أولى المظاهرات أو التي ناضل من أجلها طوال عقد تقريباً في تركيا، حيث عمل لدى منظمات المجتمع المدني التي تهتم بالمبادرات التي تخص بناء السلام ومناصرة حقوق الإنسان وتمكين الشباب والمرأة والتخطيط لانتقال السلطة السياسية في سوريا بشكل ديمقراطي، وبالطبع عانى هذا الرجل من صدمة العيش تحت حكم تنظيم الدولة الذي ارتبط به قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، في السابق، وهذا ما دفعه إلى القول: “إن تجربتنا الشخصية والعائلية من أهم الأسباب التي تجعلنا لا تفكر بالعودة، إذ إننا نرى مؤشرات تشبه كثيراً تنظيم الدولة وذلك بالنسبة لطريقتهم بإدارة الدولة والتعامل مع الناس، ولعل تلك الأمور ليست مكثفة وواضحة أو على القدر نفسه من الشدة، بيد أن الأفكار نفسها لأنها واحدة”، ولهذا ماتزال تلك الأسرة تحلم بأن يعاد توطينها في دولة أخرى غير تركيا، بما أن محاولاتهم لبناء حياة لهم لم تكن سهلة على أي منهم، ولكن منذ عام 2021، علقت مفوضية اللاجئين طلبات لجوئهم في دولة أخرى.

مشاعر مختلطة

من جانبه، كف رامي عن انتظار الإذن من الحكومة التركية حتى يعبر بطريقة قانونية نحو سوريا من الحدود المشتركة بين الدولتين، فقد سافر من غازي عنتاب إلى إسطنبول ومنها إلى بيروت ومضى بالسيارة من هناك نحو الحدود السورية التي وصلها عند منتصف ليل السابع من كانون الأول، فاكتشف عدم وجود أي عنصر على حاجز التفتيش الذي كان مرتعاً لحرس الحدود والضباط الفاسدين والذين يطلبون من الزائر رشى في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الحالات يختطفون الزائر إن كان سورياً ويخفونه كلياً، ما يعني بأن الطريق إلى دمشق بات الآن مفتوحاً.

وصل رامي إلى العاصمة عند الساعة الواحدة والنصف صباحاً، أي بعد مرور ثلاثين ساعة تقريباً على تركه لهبة وباميلا، إذ كان قد خطط للإقامة بضع ليال في دمشق قبل أن يتوجه شمالاً إلى حلب، وفي أول أمسية له هناك، شارك في تجمع رزين كان أشبه بوقفة احتجاجية من أجل السوريين المختفين قسرياً، والذين مايزال يعدون بالآلاف، حيث وقف الأهالي بصمت وهم يحملون صور أحبائهم ويطالبون بالكشف عن مصيرهم. وعندما رأى رامي شابة تحمل صورة والدها، فكر بابنته باميلا، وتخيلها وهي تمر بوضع كهذا، فأدرك أنه لا يجوز له أن يتأخر عليها.

56

استغرق الأمر منه عشر ساعات أخرى حتى يقطع رحلة امتدت لمسافة 354 كيلومتراً حتى يصل إلى مدينته التي تقع على الطرف الآخر من الحدود حيث توجد غازي عنتاب. كان على متن سيارة عتيقة، وقد خلا الطريق من الأنوار ومن أي شاخصة مرورية، وعن ذلك يقول: “كان الوضع أشبه بفيلم رعب”، وعند وصوله إلى مدخل مدينة حلب، عند منتصف الليل، لم يكن فيها كهرباء، ولهذا غرقت المدينة في ظلام دامس، لكن ذلك لا يضيره في شيء، إذ يقول: “الروعة في الأمر أني لم أكن بحاجة لتطبيق تحديد الموقع الجغرافي، بما أني أعرف كل الطرق”، وقد خلد تلك اللحظة عبر تصويرها بهاتفه، وفي مقطع الفيديو ذاك تسمعه وهو يضحك ضحكة هستيرية تقطعها شهقات بكاء.

توجه إلى بيت جدته مباشرة، حيث تقيم عمتاه مع ابنتيهما، إذ لم يكن قد رأى (نانته) منذ أن رحل عن سوريا، على الرغم من أنه ظل يرسل لنساء البيت حوالات مالية من تركيا على مدار سنين. وهناك ثبت هاتفه على حامل ثلاثي ليصور تلك اللحظة عندما كان يرتدي سترة سوداء لها قبعة وعليها كلمة (حلب) مكتوبة بالخط العربي وبلون أبيض، ثم قرع جرس (الإنترفون) الموجود أسفل الشقة، وبعد ذلك بدأ يقفز بمرح.

وعندما أيقنت النسوة بأنه رامي، أخذن يصرخن، وكذلك صرخ هو، وعن تلك اللحظة يقول: “تريد أن تضحك وأن تبكي وأن تسب وأن تصرخ، فقد اختلطت كل المشاعر ببعضها”، وعندما عانقهن أخيراً، أدرك بأن عشر سنوات وستة أشهر قد مضت منذ آخر مرة أحاطته جدته بذراعيها، وبعد أن هدأ الجميع، أخذوا يتحدثون عن آخر مرة رأوا فيها بعضهم، إذ قالت له عمته: “أتذكرك كيف بكيت وأنت راحل، وكيف قلت لي بأنها ليست دموعاً، بل إنها بسبب الهواء الذي دخل إلى عينيك”.

لم تسمح له جدته بأن ينام في أي مكان سوى بيتها، بعد أن فرشت له المرتبة الصغيرة نفسها التي كانت تفرشها له في غرفة الجلوس عندما كان ينام عندها أيام طفولته.

ولكن منذ عودته إلى سوريا، لم يعد رامي ينام ما يكفيه من الساعات، وعن ذلك يقول: “أخاف أن تفوتني أي لحظة أخرى، ولهذا أريد أن أبقى مستيقظاً لأطول فترة ممكنة حتى لا يفوتني أي وقت في سوريا، لكني اشتقت لباميلا، وأريد أن أراها، لكن النوم يجافيني، إذ ماذا لو انتهى الوقت وانقضى؟ وماذا لو أني رحلت مجدداً ولم يعد بوسعي أن أرجع؟ “.

 

المصدر: The New York Times Magazine

يذكر بأننا قد نشرنا لكم أعلاه تفاصيل ,حزن وقلق يعتري السوريين في تركيا حيال عودتهم إلى سوريا, نرجوا بأن نكون قد وفقنا بتقديم التفاصيل والمعلومات الكاملة.
وقد وصلنا إلى نهاية المقال ، و تَجْدَرُ الإشارة بأن الموضوع الأصلي قد تم نشره ومتواجد على موقع تلفزيون سوريا وقد قام فريق التحرير في شبكة الإعلام العربية محيط بالتأكد منه وربما تم التعديل عليه وربما قد يكون تم نقله بالكامل أوالإقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدات هذا الخبر أو الموضوع من مصدره الأساسي ولا تتحمل الشبكية أية مسؤولية قانونية عن الصور أو الخبر المنشور شاكرين لكم متابعتكم.

رابط الخبر الأصلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى