“نعوات سوريّة” تحية إلى ميشيل كيلو
شاهد هذا الموضوع -“نعوات سوريّة” تحية إلى ميشيل كيلو- عبر شبكة الإعلام العربية محيط والآن الى تفاصيل الموضوع
في غير المنحى الذي سأذهب إليه هنا. كتب الراحل ميشيل كيلو، قبل عشرين عاماً، مقالته الشهيرة “نعوات سورية” التي، إضافة لأسباب جوهريّة أخرى، أدخلته السجن بعد نشرها بأيام قليلة عام 2005.
بروح خفيفة الظل لا تشبه كتاباته الرصينة المعتادة، اعتمد كيلو في مقالته على الفوارق في طبيعة أعمال الحواضن بين المدينة والريف في مدينته اللاذقية، من خلال طبيعة عمل المذكورين في أوراق النعوات بين مهن عسكرية في الريف ومدنية في المدينة. أشار فيها الكاتب إلى التمييز الطائفي لسلطة الأسد، وإلى أن “الطوائف ضربٌ من بنية تحتية للوعي العام في سوريا”.
ما ذكرّني بتلك المقالة اليوم هو عنوانها فقط، ولذا لن أدخل في تفاصيلها، ولا إلى ردود الأفعال الغاضبة من بعض المعارضين التي وصلت إلى حد اتهام كيلو بالطائفية!
منذ تحرير السجناء في سجن حلب المركزي وفروع الأمن في المدينة، وصولاً إلى سجن صيدنايا، والمراكز الأمنية المنتشرة في دمشق العاصمة، فجر يوم الثامن من كانون أول 2024. كانت عائلات المخفيين في سجون الأسد منذ أربعة عشر عاماً، تلاحق إن لم يكن على أرض الواقع وداخل السجون، فعلى الأقل من خلال المعلومات، اسماً بعينه لأبٍ أو ابنٍ أو أخ، علّهم يسمعون خبراً يُبرّد نيران قلوبهم المشتعلة منذ سنوات.
بحسب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان في سوريا، فقد خرج من السجون ما يقارب 24 ألفاً، بينما تحتوي سجلات الشبكة نحو 136 ألفاً من المختفين قسرياً. وللعلم فإن توخّي الدقة في التوثيق حسب المعايير الدولية التي تعتمدها الشبكة، يجعل الخبراء والمتابعين لهذا الملف، بمن فيهم مدير الشبكة، يعتقدون أن أعداد من قتلوا في السجون خلال السنوات الماضية من حكم الأسد الابن، يزيد عن ربع مليون سوري. هذا إن لم ندخل في حساباتنا هنا، المختفين والمقتولين في سجون الأب وهم بعشرات الآلاف.
خلال أيام، بدأت تظهر على وسائل التواصل قوائم خاصة للمقتولين من قبل العائلات أو الأحياء أو القرى. شاهدت قائمة بمفقودي عائلة واحدة في بابا عمرو بمدينة حمص تضم 170 اسماً، وشاهدت مقطعاً مصوراً لخيمة عزاء لمفقودي إحدى القرى وقد عُلِّقت عليها عشرات الصور والنعوات. وتابعنا جميعا صوراً تتوزع بين ساحتي المرجة والأمويين في دمشق لمفقودين لن يعودوا للأسف، وعلى الأغلب أن جثامينهم ترقد الآن في واحدة من عشرات المقابر الجماعية. كل هذا يشي بحجم الكارثة في ملف المفقودين في سجون الأسد، مما يحتِّم على السلطات القادمة التعامل معه بجدّية ومهنية عالية.
مع اختلاف الأعداد التي لا يمكن أن تُقارَن بالحالة السورية، إلا أن هناك تجارب مشابهة في كثير من دول العالم، وخصوصاً في أميركا الوسطى واللاتينية، أهمها تجارب الأرجنتين والمكسيك، بما يختص بالتحقيق ومتابعة ملف المفقودين والمقابر الجماعية، بهدف الوصول إلى الحقيقة. مع ممانعة حكومية بوجه مطالبات العائلات لمعرفة مصير مفقوديها، احتاجت تلك الملفات في تلك الدول إلى سنوات طويلة، ولم تصل بعد إلى النتائج النهائية ولا إلى الحقيقة كاملة.
في المكسيك، بحسب وثائق الأرشيف الوطني السري الأميركي المفرج عنه، أنه بعد عقود من إصرار الأسر والناشطين على تحدّي صمت الدولة، اضطر الرئيس المكسيكي عام 2021 إلى إصدار مرسوم بإنشاء “لجنة الوصول إلى الحقيقة والتوضيح التاريخي” بما يختص بمفقودين منذ ما قبل عام 1995. اللجنة أطلقت على الفور خمس مجموعات عمل للتعامل مع أبعاد مختلفة للمشروع. مجموعة للتحقيق في الانتهاكات وإنتاج تقرير الحقيقة، وأخرى لتعزيز العدالة، والبحث عن المختفين، والأهم مجموعة تعزيز الذاكرة بغية عدم تكرار تلك الجرائم.
ما لفت نظري في تقرير الأرشيف المُفرج عنه مؤخراً، قبل قرابة شهر واحد، أن السجلات والوثائق المنشورة تُعطي إحساساً بأولويات السياسة الخارجية الأميركية في أثناء “الحرب القذرة” في المكسيك، وتوضح أن سلطات الولايات المتحدة كانت تعطي الأهمية الأكبر لاستقرار النظام المكسيكي فوق أي شيء آخر، وبررت بعض التقارير انتهاكات حقوق الإنسان باعتبارها شرّاً ضرورياً لاحتواء التهديدات الأهم! هذا فسَّر لي جانباً من القبول العالمي الرسمي لموت السوريين المرئي والمسموع خلال أربعة عشر عاماً.
بالعودة إلى الحالة السورية، وبعد الانهيار الكامل لنظام الأسد، فلا أعتقد أن هناك مصلحة لأي جهة فاعلة وقادرة، داخلياً على الأقل، بإعاقة الوصول إلى الحقيقة. لكن المؤسف هي مشاهد الإهمال التي تابعناها للأرشيف والورقيات داخل السجون المحرَّرة والفروع الأمنية، والعبث الذي طال تلك الوثائق. وثائق كل واحدة منها كانت ستعين فرق التحقيق مسقبلاً. مما يرتِّب على السلطات الجديدة اليوم حفظ تلك الأدلّة، والبحث عن المفقود منها، بانتظار تشكيل لجنة وطنية بصلاحيات واسعة، للتحقيق والوصول إلى الحقائق حول مصير كل مفقود، من أجل أسرهم ومن أجل مستقبل سوريا. وقبل كل شيء من أجل أرواح عشرات آلاف المفقودين الذين عرفنا خلال الأيام الماضية، أنهم لن يعودوا. وختاماً من أجل ألا تتكرر تلك المجزرة.
هؤلاء رغم أنهم قتلوا على دفعات خلال أكثر من 13 عاماً. لكن وجدانياً، بعد يأس العائلات من وجودهم أحياء مع تحطيم أبواب آخر السجون، فإنهم استشهدوا في وجدان عائلاتهم وحتى في مخيلة السوريين خلال يوم واحد. نعم خلال يوم واحد بدا لنا أن الأسد قتل أكثر من ربع مليون سوري دفعة واحدة. لو عاد ميشيل كيلو اليوم، فعن أي “نعوات سوريّة” سوف يكتب؟ وهل سيتهمه منتقدوه يومها، اعتماداً على أسماء الضحايا، أنه يكتب اليوم أيضاً بطريقة طائفية؟
“أبو أيهم”، تحية لروحك النبيلة في هذا اليوم الذي انتظرته طوال حياتك، ونذرت له عمرك وبذلت من أجل الوصول إليه كل شيء، ولم يكن مقدَّراً لك أن تحتفل به معنا.
شارك هذا المقال
وقد وصلنا إلى نهاية المقال ، و تَجْدَرُ الإشارة بأن الموضوع الأصلي قد تم نشره ومتواجد على موقع تلفزيون سوريا وقد قام فريق التحرير في شبكة الإعلام العربية محيط بالتأكد منه وربما تم التعديل عليه وربما قد يكون تم نقله بالكامل أوالإقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدات هذا الخبر أو الموضوع من مصدره الأساسي ولا تتحمل الشبكية أية مسؤولية قانونية عن الصور أو الخبر المنشور شاكرين لكم متابعتكم.
رابط الخبر الأصلي