سوريا

رائد الفضاء يترجل.. جماهير المستبد وجماهيرية الفارس



منذ أن تعاقبت الحكومات ذات الطابع العسكري الأحادي على اغتصاب السلطة، لم تشهد البلاد السورية حالة من الإجماع الوطني الذي يمكن أن يتجسّد بطريقة حسية على أرض الواقع، إذ إن أي تجمهر بشري للمواطنين أصبح من جملة المحظورات التي تثير حفيظة السلطة، ذلك أن نهج الاستبداد والتسلّط إنما هو قائم بالأصل على مناهضة الإرادات الشعبية بمقابل تحكّم الفرد أو الحاكم الأوحد تحكّماً مطلقاً في مقدرات البلاد ومصائر أبنائها.

وبحكم منطق الوصاية الذي يتقمّصه، يمنح الحاكم لنفسه ولأدواته السلطوية الحق بالتفكير نيابة عن المجتمع، وبالحب والكره نيابة عن المجتمع، وهكذا تصبح فكرة اختزال المجتمع والوطن والدولة في شخص الحاكم أسلوباً يستمد شرعيته ليس من قبول ورضا الناس، بل من نهج التوحّش القائم على الإكراه والإذلال والإهانة للمواطنين.

لكن في مقابل هذا الانكفاء القسري للمواطنين عن أي حالة تجمع بشري فيزيائي مشفوعاً برغبة المواطنين وممهوراً بإرادتهم، ثمة أشكال من التجمعات البشرية سعت السلطة إلى إيجادها في الوقت الذي تريد، فمن ذلك مثلاً المسيرات المؤيدة لنظام الحكم، وكذلك الجموع البشرية التي كانت تسوقها المخابرات بالسياط إلى الساحات احتفاء بمناسبات تخص السلطة، وقد بات واضحاً لدى الكثيرين أن مشاركة المواطن لحشود كهذه مرغمة على الحضور والهتاف، إنما يجسّد لديه في قرارة نفسه شعوراً بالإهانة والمذلة، لأنه مُجبر على افتعال البهجة وإظهار السرور من خلال الهتاف الذي كان يملى على الجمهور، بينما نفسه لا تخفي إلّا الإدانة المطلقة لهذا الاستعباد الذي تمارسه السلطة الغاشمة.

الفقيد محمد فارس كان أهلاً لجميع الصفات التي نعته بها جمهور السوريين.

جسّدت ثورة السوريين في آذار 2011 منعطفاً حاسماً في التاريخ الحديث، لعل أبرز معالمه قدرة السوريين على تحطيم أسوار الخوف واختراق هيبة السلطة، وبالتالي قدرتهم على الخروج إلى الساحات العامة والشوارع ليعبروا عن رفضهم منهج التوحش والإبادة، وتطلعهم إلى بناء دولة ينعم فيها المواطن بالحرية والأمان ورغد العيش.

وقد جسّدت المظاهرات العامة التي شهدتها المدن والبلدات والقرى السورية حالةً من الإجماع الوطني المتمثل بالكثير من الشعارات والهتافات التي كانت تختزل الكثير من المضمرات الوجدانية والشعورية المشتركة بين المواطنين، إلّا أن هذا الشطر المزدهر من عمر الثورة السورية سرعان ما انزاح بفعل عوامل العنف الذي بدأت به السلطة، ومن دخول البلاد في دوامة من الحرب لم ينج منها طرف، فتسيّد السلاح المشهد، وزال صداح الحناجر وغابت مظاهر التجمعات الغفيرة، وباتت البلاد تخضع لسلطات أمر واقع، وكل سلطة تنافس الأخرى في إسكات صوت المواطن وإعادته إلى صمته كما كان من قبل آذار 2011.

ومنذ ذلك الانحسار بات اجتماع السوريين وكذلك إجماعهم مرهوناً بمناسبات محددة، لعل أبرز تلك المناسبات هي الحالات التي يغيّب فيها الموت شخصية وطنية عامة من الشخصيات السورية التي لها أثر واضح في وجدان السوريين، بل ربما تجاوزت هذه الظاهرة حدودها المألوفة وباتت تجسّد معلماً يحتاج إلى مزيد من التأمل بغية التعليل والتفسير.

لعل هذا ما يجده المرء في مجمل التداعيات التي أعقبت رحيل رائد الفضاء اللواء محمد فارس رحمه الله في التاسع عشر من شهر نيسان 2024 ، إذ تحوّلت مناسبة رحيله إلى تظاهرة وطنية على امتداد وجود السوريين سواء في داخل البلاد أو في بلدان اللجوء، ولعله من الصحيح أن الفقيد محمد فارس كان أهلاً لجميع الصفات التي نعته بها جمهور السوريين، كما كان أهلاً لالتفاف الكثير من السوريين أيضاً حول سمعته الطيبة وسلوكه الراقي وأخلاقه ونزاهته، فضلاً عن تاريخه الحافل بالمنجزات العلمية والمعرفية، وليس آخر فضائله أن انشق عن جيش السلطة وانحاز منتصراً لقضية شعبه.

جمهور الثورة بحاجة إلى من يقود السفينة ويكون قادراً في الوقت ذاته على التماهي مع تطلعاتهم وأهدافهم، سواء من حيث الفكر أو العمل معاً.

ربما كان جميع ما تم ذكره عاملاً من عوامل الاحتفاء الجماهيري الكبير برحيله، ولكن من يتأمل مظاهر رحيل الرائد محمد فارس، وحالة الحشود الشعبية التي تحولت إلى مظاهرات كبيرة أعادت للأذهان مظاهرات الشطر السلمي من عمر الثورة، إن من يتأمل ذلك سيدرك بلا شك أن السوريين لا يحتفون بالفقيد فقط، وإنما يحتفون بإجماعهم الذي افتقدوه، إنهم يهتفون للحظة الجامعة التي تمت استعادتها أو استحضارها من خلال وفاة الفقيد.

كما يكشف هذا الاحتفاء الكبير عن افتقاد السوريين ليس إلى اللحظة الجامعة لهم فحسب، بل إلى الشخصية التي تتوحد أفكارهم ومشاعرهم حولها وتكون محط توافق معظم السوريين، وهذا يعكس بالطبع حاجة جمهور الثورة إلى من يقود السفينة ويكون قادراً في الوقت ذاته على التماهي مع تطلعاتهم وأهدافهم، سواء من حيث الفكر أو العمل معاً.

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى