سوريا

عندما يكون الانتصار هزيمة ساحقة



يروي الأصدقاء من أحد أوطاننا العربية البائسة طرفة مؤلمة يتداولها مثقفو ذلك البلد، تقول إن مؤتمراً شعبياً انعقد للخروج بحل للأزمات الاقتصادية المستعصية، فكانت أفضل توصية خلصوا إليها: إعلان الحرب على الولايات المتحدة الأميركية، التي لا بد أن تنتصر عليهم، فتغزوهم، وبالتالي يصبح إطعام الشعب والإنفاق عليهم مسؤولية الأميركان! بيت القصيد في الطرفة ليس هنا، إذ يقفز “حكيم ذكي” في نهاية المؤتمر ليسأل: ماذا لو انتصرنا نحن على الأميركان؟ ماذا نحن فاعلون حينذاك؟

بعيداً عن الخيال، ثمة قصة حقيقية من حرب فيتنام، تحكي كيف كانت التقديرات الاستخبارية الأميركية في أواخر عام 1967 تشير إلى أن الفيتكونغ على وشك الوقوع في فخ معركة يجرهم إليها الأميركان في نقطة عسكرية محددة للقضاء عليهم بشكل ساحق. إلا أن ما جرى في يوم أغبر من كانون الثاني/يناير 1968، كان مخالفاً للتوقعات من حيث الزمان والمكان، فقد أشعل الفيتكونغ الأرض تحت الجنود الأميركيين الذين كانوا يستريحون في هدنة سنوية متعارف عليها بيوم “تيت” (وهو عيد سنوي محلي)، خرقها الثوار الفيتناميون بهجوم متزامن واسع النطاق على معظم القواعد العسكرية الأميركية، بل وحتى السفارة الأميركية في “سايغون” نفسها التي صدّ المارينز الهجوم عليها بشق الأنفس. وصحيح أن الرد الأميركي قلَب الهجوم إلى ما يمكن اعتباره “معركة خاسرة” للفيتناميين الذين فقدوا كثيرا من الأرواح بمجرد استعادة الأميركيين زمام المبادرة، إلا أن ما لم يدركه القادة الأميركيون في واشنطن يومها، هو أن “انتصارهم” على الفيتكونغ في “معركة هجوم تيت” الشهيرة، حمل في طياته هزيمة ساحقة، لأن أحداث ذلك اليوم أوصلت رسالة مفادها أن الفيتناميين ما زالوا يقاومون، وليسوا في الرمق الأخير، فكانت تلك بداية النهاية للحرب الفيتنامية التي طالت عقداً من الزمان، لأنها جاءت في وقت حَرِج أسقط زعم الدعاية الأميركية الرسمية قرب الانتصار، وتلا ذلك سقوط الإدارة الأميركية “الديمقراطية” في الانتخابات الرئاسية تلك السنة، ومجيء إدارة “جمهورية” جديدة عملت على الخروج من فيتنام، التي تُعتبر حتى اليوم رمزاً لـ”هزيمة” مُذلّة في تاريخ القوة العظمى.

كيف يكون “المنتصرون” هم بالعو الموس على الحدّين، وهم الذين يعيشون حالة من الانهيار الاقتصادي المريع في غياب تام لأدنى مقوّمات الحياة وخدماتها؟

لنعد إلى دمشق التي يعمي بصيرة قادتها اليوم بريق “انتصار” وهمي، يعيد إلى الذاكرة السورية سخرية شعبية قديمة من وصف نظام حزب البعث للهزيمة المنكرة في نكسة 1967 أمام العدو الإسرائيلي بأنها “انتصار”، لمجرد أن النظام لم يسقط في تلك الحرب التي خسرت فيها سوريا – خلال أيام قليلة – مرتفعات الجولان التي ما زالت تحت الاحتلال إلى يومنا هذا.

أليس السؤال المسيطر على وعي حاضنة “النظام السوري” اليوم يدور حول معنى “الانتصار” و”الهزيمة” في الحرب التي دارت رحاها في البلاد طوال العقد الأخير؟ كيف يكون “المنتصرون” هم بالعو الموس على الحدّين، وهم الذين يعيشون حالة من الانهيار الاقتصادي المريع في غياب تام لأدنى مقوّمات الحياة وخدماتها؟ بينما يعيش من يُفترض أنهم “الخاسرون” في رغد الخدمات المستمرة بلا انقطاع طوال ساعات اليوم من كهرباء وماء وحرية شراء الخبز والغاز والعيش بكرامة نسبية، في ما يسمى مناطق “المعارضة” السورية؟

يعرف السوريون جميعاً أن هذه المناطق “المعارِضة” المهمّشة، الواقعة خارج حدود “سوريا المفيدة” حسب وصف حكومة دمشق، لم تكن تحظى حتى في عصر “السّلم” السابق للثورة السورية بمثل هذا المستوى من الخدمات أصلاً، فالسوريون – في ظل استشراء الفساد – عاشوا عقوداً تحت وطأة تقنين الكهرباء والماء ورداءة الخدمات، بعكس ما يريد النظام أن يقنع به الناس ظناً منه أن ذاكرة الشعب قصيرة، ليرمي بكل تبعات فساده واستبداده المزمن على “الأزمة” و”العقوبات”، وهو ما يمكن دحضه بكل سهولة.

إن سوريا اليوم أمام مفترق طرق جديد، إذ تعود الاحتجاجات لتتفجر في مناطق سيطرة النظام، بعد أن ضاق الناس ذرعاً بالوصول إلى قاعٍ لم يجربوه في أسوأ سنوات الخوف والجوع من قبل. ثمة في النظام من يعتقد أن أسهل حل هو تكرار الوصفة الحمقاء التي تم بها التعامل مع احتجاجات الثورة السورية عام 2011، من اعتقالات وقمع وكمّ للأفواه، فضلاً عن دسّ المتطرفين في صفوف المحتجين للدفع بالاحتجاجات نحو التطرف ورفع سقف المطالب إلى الدرجة التي تبرر الحل الأمني الشامل مجدداً، ونعود إلى دوامة العنف والصراع إلى ما لا نهاية.

إننا كسوريين محبين لوطننا، نحذر من خطورة تكرار النظام سياسته المدمّرة، في الوقت الذي أضحى فيه المخرج واضحاً بعد المبادرة العربية الأخيرة، أي تحقيق الحل السياسي بموجب القرار 2254

وليوفر المتحذلقون علينا اتهاماتهم الجاهزة بالتحريض، التي يوجهونها إلى كل من يحذر من مستقبل أسود للبلاد في ظل الحل الأمني والقمع العسكري، فذلك لا يصح عندما يكون الدمار واقعاً عشناه، والانهيار حقيقة ماثلة أمام عيوننا، وليست مجرد تكهنات كما كان يحذر العقلاء قبل عقد ونيّف، وهذا واضح لمن يعيش في الحقيقة بعيداً عن الأوهام.

إننا كسوريين محبين لوطننا، نحذر من خطورة تكرار النظام سياسته المدمّرة، في الوقت الذي أضحى فيه المخرج واضحاً بعد المبادرة العربية الأخيرة، أي تحقيق الحل السياسي بموجب القرار 2254، حيث يكون الانتقال السياسي نحو حقبة جديدة هو المدخل لأي إعادة إعمار وإنقاذ لسوريا من مزيد من السقوط.

أما إذا لم تلق التحذيرات آذاناً مصغية، فمستقبل سوريا كله في الميزان. وعندها لات ساعة مندم!

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى