سوريا

الشعر السوري ولعنة الأيديولوجيا



ثمة كتب ومقالات كثيرة كتبت عن الأدب والأيديولوجيا، وذهب الكثير من الباحثين إلى أن النظرية الأدبية هي جزء من التاريخ السياسي والأيديولوجي. والشاهد على ذلك أن كل التيارات الأدبية الغربية كانت ذات توجهات إيديولوجية.

ولتلك الآراء سندها من الإنتاج الأدبي، يمكن ملاحظة ذلك وتتبعه منذ بداية الخمسينيات، مذ ذاك طرحت قضية الالتزام، ولاقت رواجا، وروّادا، وأصبح لها موقعها المتقدم في الحوارات بين المهتمين الذين نظروا إلى الأدب باعتباره أداه للتغيير، وحامل موضوعي لنشر القيم السياسية التي كان يمثلها الفكر الاشتراكي آنذاك. من حيث أن “الإبلاغ” إحدى وظائف اللغة. منذ تلك الفترة وضع الأدب الملتزم السياسة في أولويات مهامه، واعتبر الأدب مادة مؤدلجة بحكم الضرورة، لدرجة صار من الممكن القول أن كل نظام سياسي عربي، لديه نظام ثقافي خاص به!

وأي متابع للإنتاج الأدبي السوري خلال تلك الحقبة من الألفية الثانية يلاحظ هذا بوضوح. وتفاقم الحال مع الألفية الثالثة. إذ أن أهم وظائف الأيديولوجيا تقوم على تبني معتقدات، وقيم تكون مشتركة بين أفراد المجتمع، وهذا مرتبط عمليا “بوجود سلطة، دولة، حكم تتميز إرادته عن إرادة المحكومين”. لذلك تأخذ –أحيانا- شكل الإملاءات، إلى أن تنتشر وتترسخ، فتصبح ثقافة عامة. يتبناها البعض ويؤمن بها، ودائما ثمة من يدعي الأيمان، خشية ردة فعل السلطة أو القطيع.

في الشعر ثمة ما قبل تلك العلاقة وتجلياتها، ثمة ما يمكن أن نسميه الحامل الموضوعي للنص، أو قوة النص، وهذه القوة تتأتى من الموهبة. لذلك تجد أنصاف الموهوبين هم الأكثر تبنيا لأيديولوجيا الأنظمة، فتكرّس أصواتهم الشعرية عبر وسائل الإعلام، ويأخذون دور الشعراء!! وأحيانا يضطر الشعراء لمسايرة الأيديولوجيا، وتوظيف تلك الأفكار، خوفا أو طمعا. فالشاعر في النهاية ليس بطلا مضادا للخوف أو الطمع.

***

أعرف أن الموهبة وحدها لا تكفي، وأعرف أن الفن على وجه العموم، وخاصة الشعر، بدون موهبة أصيلة لا يكون. قد يكتب أحدهم كلاما موزونا بلغة حصيفة، كما فعل أغلب الفقهاء، هذا الكلام يرتدي زي الشعر، ولكنه ليس شعرا. ربما كتبوا بهذه الطريقة ليسهل حفظ ما يريدون قوله، كما فعل الإمام محمد بن عبد الله الطائي في الألفية، والمسماة ب”الخلاصة”، لأنها من أهم المنظومات النحوية واللغوية. فالنظم شيء، والشعر شيء آخر. فالشاعر الموهوب يمكن معرفته منذ بداياته الأولى، يتدرج في اللغة والثقافة والمعرفة، ولكن الحامل الموضوعي لقوله الشعري، هي الموهبة. وقد أتاح لي عملي في مديرية الثقافة، ووجودي في جمعية الشعر، وشغلي في الصحافة، فرصة متابعة الكثير من الشعراء عن كثب. البعض منهم تربكك معلوماته الغزيرة، وتمكنه من اللغة والوزن، وعدد الكتب التي أصدرها، والدول التي زارها بصفة شاعر، ولكنه حين يقرأ لك شعرا، أو تقرأ أشعاره، لا تحس بأي ارتباك! إذا سمعته وأنت جالس، وكنت تضع إحدى ساقيك فوق الأخرى، حتى تلك الساق المرفوعة على أختها لن تهتز! الملفت للنظر بشخصيات أولئك الشعراء هو تبنيهم الغريزي- القطيعي للأيديولوجيا التي فرضتها السلطة دون محاكمة تلك النظم الفكرية!

لم يحظ رياض الصالح الحسين (1954-1982) بالمكانة التي يستحقها إلا بعد وفاته، وقد انتبه لموهبته الفذة القراء قبل النقاد

وثمة شباب التقيت بهم وهم في ريعان الشعر، فاهتزّت كل جوارحي وأنا أسمعهم: حسن إبراهيم الحسن، طلال الرجا، حسين الضاهر، محمد الحمد، علاوي علي، أحمد الصويري، إياد حمودة، محمد الجبوري… وغيرهم كثيرون.

وثمة من أتاحت لي الظروف أن أكون قريبا منهم فاطلعت على تجربتهم وهي في مضانها كالشاعر إسماعيل عبد الوهاب اللجي، صاحب الديوان الوحيد “قول على عصر الخراب”، في هذا الديون يرسم الشاعر الحد الفاصل بين المتمكن والمبدع- الموهوب، فالمتمكن يصيب الهدف الذي لا يستطيع إصابته الآخرون، بينما المبدع- الموهوب فإنه يصيب الهدف الذي لا يراه الآخرون. منذ عام 1998 قال اللجي كلمته في الوضع السوري، وكأنه يرجم في الغيب علما: “كلنا نسقى بماء واحد/ لكنّنا لسنا سواء، كلنّا جئنا إلى الكون على طين وماء/ كلنا نغرق في الفقر، وبعض بالدماء/ عندنا تحيا أمان، ويموت الناس من فرط المنى/ عندنا نمشي، وننسى من ذهول ظلنا/ عندنا.. لا شيء مما عندنا حق لنا”. والشاعر عبد اللطيف خطاب، صاحب الديوان الوحيد “زول أمير شرقي”.

***

واللافت للنظر أن “اتحاد الكتاب العرب” هو الذي أخذ دور الرقيب الأمني على كل المخطوطات التي يرغب كتابها بطباعتها في كتاب. إذ أن الكاتب يودع المخطوط في “وزارة الإعلام”، لأخذ الموافقة على الطباعة، والوزارة ترسل المخطوط بدورها إلى “اتحاد الكتاب العرب”، وهناك ينفّذ كتّاب التدخل السريع قصف الكاتب بالمثل العليا! وعلى خلفية ذلك بنيت العلاقات بين الكتاب والقائمين على الصحف السورية التي تصدرها “مؤسسة الوحدة، واتحاد الكتاب العرب، ووزارة الثقافة”.

آنذاك كان النقد الأكاديمي مشغولا بالإرث الشعري العربي، أكثر من انشغاله بموجة الشعر الحديث، والتجارب المعاصرة. والنقاد الذين تابعوا تلك الموجات الجديدة، انشغلوا بسؤال الهوية، أكثر من انشغالهم بالحداثة، لذلك، وعلى سبيل المثال لم يحظ رياض الصالح الحسين (1954-1982) بالمكانة التي يستحقها إلا بعد وفاته، وقد انتبه لموهبته الفذة القراء قبل النقاد.

بعد عام 2011، تعرضت تلك الأيديولوجيات السورية المموهة بالوطنية لخضّة قوية، فتهالكت، وأصيب الشعر السوري بحمى النستولوجيا، إذ “لم ينجُ أحدٌ من الحرب، حتّى الذين خَرجوا سالمين منها، حاصرَتْهم الذكريات”.

الآن وبعد الخضة التي تعرض لها الوطن العربي بعد سقوط بغداد، والربيع العربي، أصبحت  جياد الشعر –كما يقول أحد النقاد- كلها في المضمار. لقد تداعت جدران سجون الأيديولوجيا، وأصبح الفيس بوك أهم من أي صحيفة من حيث غزارة المنشورات، وعدد المتابعين، وأصبحت القاعات المكتظة بالتكلف والمجاملات والنفاق، هي الأقل جمهورا. وصارت مقولة (الشاعر داخل الجغرافيا) مجرد هذر لا معنى له، فالمشترك الإنساني هو الحامل الموضوعي للأدب بشكل عام.

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى