في ذكراه.. كيف استطاع الإمام البخاري تدوين صحيحه؟
تحل اليوم ذكرى الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة المعروف بـ الإمام البخاري، إمام أهل الحديث، وجامع السنة النبوية المطهرة، وصاحب الكتاب المشهور بصحيح الإمام البخاري، فقد كان صحيح الإمام البخاريّ مشروعَ حياةٍ متكامل.
ذكرى الإمام البخاري
ورغم الجهود المُضنِية التي قدَّمها الصَّحابةُ والتَّابعون وتابعوهم لخدمة سُنَّة سيدنا رسول الله ﷺ خلال قرنين كاملين من الزَّمان إلَّا أنَّ صحيح الإمام البخاريّ سيظل علامة فارقة في تاريخ تدوين السنة كلِّه، وسيظل الإمام البخاريّ هو دُرَّة أهل الحديث وأميرُهم وإن تباعد زمانُه، لا لشيء سوى ما مَنَّ الله به عليه من جودة الحفظ، ودقّة الفهم، وسرعة البديهة، واتِّقاد الهمّة، وما وُفِّق إليه من تأسيس مدرسة البحث العلمي الأولى في الاستقصَاء والاستدلال والعَزو.
بدأ البخاريّ رحلةَ تأليفه مع طلبِه للعلم منذ نعومة أظفاره، وأنهاها في مجالس حديثه التي طاف بها البلاد، وأسمع فيها صحيحَه نحو 90,000 إنسان إلى أن وافته المنيَّة رحمه الله وبين البداية والنَّهاية كانت حياة مُفعَمة بالنَّشاط في تحصيل العلوم، والتَّجرّد في تبليغها، والتَّطواف والتَّرحال بين الأمصار، والدِّراسة والتَّمحيص لتراجم آلاف الرُّواة، والتَّلقِّي والكتابة عن 1,080 شيخًا، هم أئمة الحديث الشَّريف في زمانه.
بدأ الإمام البخاري رحلته في تدوين الصحيح وهو ابن ثمانِيةَ عشر عامًا؛ وختمها بعد أن بلغَ الرابعة والثلاثين، وأودَعَهَا زهرة شبابه، ستة عشر عامًا كاملة عَمَد خلالها هذا الإمام العظيم إلى تلال المرويَّات الحديثيَّة المُتراكمة، واستخرج من بين الرُّكام صحيحَها، ثم انتقى من بين الصِّحاح نفيسَها؛ مُقررًا للحُكْمِ على الرُّواة معاييرَ دقيقة، ومُعتمدًا لقبول المرويات شروطًا صارمة لم تعهدها حقول البحث التَّاريخيّ قبله، وهي اشتراط: اتِّصال السَّندِ، وعدالة الرُّواة، وتمام ضَبطِهم، وعدم الشُّذُوذ، وعدم العِلَّة، مع أمانةٍ بالغةٍ في إيراد المتن شَهِد بها القاصي والدَّاني؛ كل هذا في المرويَّة الواحدة.
فقد كان معيارُه الرئيس في تصحيح الحديث هو: التَّثبُّت من هُوية كافَّة رُواتِه، والتَّحقُّق من نزاهتهم وتقواهم، وخلُوّهم من التَّحيُّزات المذهبيَّة، والتَّوجُّهات الحزبية، والأهواء الشَّخصيّة؛ فإن ثبت إلى جوار عدالة الرُّواة هذه ضَبطُهم، واتصالُهم الزَّمنيّ باللُّقيا والمعاصرة معًا اعتُبِر الحديث صحيحًا لديه.
ويكفي للتَّدليل على عظيم بذلِه في تدوين (الصَّحيح) أنَّه رحمه الله انتقى أحاديثَه البالغةَ 2,761 حديثًا بدون المكرر من بين 600,000 حديث، وصنَّفه ثلاثَ مراتٍ في كل مرةٍ يهذّب وينقّح إلى أن أخرجه للنُّور تحت عنوان: (الجامع المُسْنَد الصَّحيح المُختَصر من أُمور رسول الله ﷺ وسننه وأيَّامه)، ثمّ قال: ما أَدخَلتُ في هذا الكتاب إلّا ما صحّ، وتركتُ من الصِّحاح كي لا يطول الكتاب.
ومع اهتمام البخاريّ باتصال السَّند وصحَّته؛ فقد طلب إلى جوارهما عُلوَّه كذلك، حتى أُحصِي له في الصَّحيح أكثر مِن 20 حديثًا لم يكن بينه وبين النَّبي ﷺ فيها إلا ثلاثة رجالٍ فقط، وهي المعروفة بـ (ثُلاثِيَّات البُخاري).
بالإضافة لما احتفَّ به تدوين (الصَّحيح) من النَّفحات والقُربات؛ فقد بَدَأَ البخاريّ تصنيفه في المسجد الحرام، وكَتَبَ تراجمه في روضة المسجد النَّبويّ الشَّريف بين قبره ﷺ ومنبره، وكان يُصلي لكل ترجمة ركعتين، ولم يُدخِل إليه حديثًا إلا إذا اغتسل وصلى لله تعالى ركعتين كذلك، ولا عجب.. فقد كان الإمام البخاري آيةً في الإخلاص والورع والعبادة رحمه الله تعالى وبعد أن أتمَّ البخاري تدوينه عَرَضَه على أكابر علماء عصره من أساتذةِ الحديثِ وجَهابِذَتِه شيوخًا وأقرانًا، أمثال الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي زُرْعَة الرَّازي؛ فاستحسنوه، ومدحوه، وشهِدوا له بالصِّحة، ثمَّ تلقَّته الأُمَّة على مرِّ العصور بالقبول؛ معتبرةً إياه أصحّ الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
كما حرص علماءُ الأمَّة على خدمتِه؛ نَسْخًا، وشَرْحًا، ودراسةً لأسانيده ورجاله وتراجمه وفقهه، ودفعًا لما أُثِير حوله من الأوهام والشُّبهات؛ حتى بلغت الأعمال العلميَّة المُفرَدة له نحو 500 مُؤلَّف، ناهيكَ عن المؤلفات التي تناولتْه عَرَضًا من غير إفراد؛ فهذه أكثر من أنْ تُحصَى.
كما أنه لم يُعرَف خلال تاريخ أمَّة الإسلام كتابٌ بعد القرآن الكريم له مكانةٌ كمكانةِ (الصَّحيحِ) أو هيبةٌ كهيبتِه؛ فقد قُدِّر عدد مخطوطاته في مكتبات العالم بأكثر مِن 25,000 قطعة منه؛ مما يُؤكِّد تَغلغُلَه في وجدان هذه الأمة وضِميرها؛ ولمَ لا؟! وقد استَمَدَّ مكانتَه لدى المسلمين من مَكانة السُّنَّة، ومكانة صاحِبِها عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام.