سوريا

الثورة السورية بين جمعتين وأحد عشر عاماً



تساءل قيادي إسلامي سوري عما حدث بين جمعة «كلنا جبهة النصرة»، التي نظّمها متظاهرون في الرابع عشر من كانون الأول 2012، وبين جمعة «سنعيدها سيرتها الأولى» التي خرج فيها محتجون على قيادة «هيئة تحرير الشام»، وريثة «جبهة النصرة» نسبياً، في مناطق سيطرتها قبل عدة أيام.

أتت الجمعة الأولى احتجاجاً على تصنيف الولايات المتحدة الأميركية هذا التنظيم الإسلامي المقاتل بالإرهاب. ولم يقتصر رفض ذلك على الحراك في الشارع بل تعداه إلى التمثيل السياسي الرسمي للمعارضة وقتئذ، وقادة فصائل من «الجيش الحر»، وضباط منشقين فاعلين. بشكل بدا معه التعاطف مع «الجبهة» محل إجماع، أو شبه إجماع، ثوري. وكان على الاسم الرديف للجمعة، أو البديل، أن يشرح سبب الرفض بالقول إنه لا إرهاب في البلد إلا إرهاب الأسد.

والحال أن شيئاً جاداً لم يتغير في نظرة السوريين إلى التصنيف الخارجي بالإرهاب وتشكيكهم بمبرراته، بل في موقفهم من هذه الجماعة السلفية الجهادية التي بدت للكثيرين، في تلك الأيام، ثلة من فدائيين متفانين «باعوا أرواحهم» وقدِموا لدعم إخوتهم المظلومين كما يدل الاسم «النصرة»، دون طموح في الحكم أو أطماع في أي من «شؤون الدنيا». وما تغير هو هذا بالضبط. فعبر سنوات من تحولات التنظيم، أفكاراً وحجماً ومشروعاً وقواعد، أبرزت الحلقة الضيقة من قيادته وجهاً شديد الدنيوية بالتحكم في مقدرات الأراضي التي سيطرت عليها، ولحماية ذلك من المنافسة أنشأت ذراعاً أمنياً تميز بقبضة قمعية مطلقة باتت تضاهي ما عرفه السوريون عن أجهزة المخابرات الأسدية. وهو ما سوّغ لمحتجي اليوم اعتبار «جهاز الأمن العام» هذا جهة تقوم على إرهاب الناس وتستحق مماثلتها بنظائرها لدى النظام.

ما ارتكبه «الأمن العام» من انتهاكات هو سبب أزمتها الحالية في وجه مطالبات جادة بحله ومحاسبة المسؤولين عنه

وفي الواقع تحمل سيرة هذا الجهاز مفارقة طريفة رغم فظاعته. فقد كان «الأمن والأمان»، كما تقول ثنائية تسلطية مألوفة، هو السلعة الأبرز التي طرحتها «الهيئة» لتسويق وجودها في الداخل والخارج. ثم كان ما ارتكبه «الأمن العام» من انتهاكات هو سبب أزمتها الحالية في وجه مطالبات جادة بحله ومحاسبة المسؤولين عنه، وصولاً إلى إقالة قائد «الهيئة» أبي محمد الجولاني، حامي الجهاز.

فقد مرّ وقت قريب روّجت فيه السلطات في إدلب لقبضتها الأمنية بوصفها «درع المحرر» الحصين ضد عملاء النظام والدواعش وعصابات الجريمة، وأساس الاستقرار الذي أتاح لسكان إدلب أن يتمتعوا بإنارة طريق هنا وافتتاح مول هناك وإنشاء دوّار في أحد تقاطعات المدينة. ورغم أن هذه لم تكن ضمن أولويات الأهالي، الطامحين في استعادة مناطقهم والعودة إليها أساساً أو في العيش فوق خط الفقر ريثما يحصل ذلك؛ إلا أن جهاز «الهيئة» الإعلامي قدّمها بوصفها علامات على النهضة وبناء «المؤسسات» التي لم تكن لتستطيع بسط نفوذها لولا الأمن الذي تتمتع به المنطقة، بالمقارنة، أساساً، مع مناطق سيطرة الفصائل المنضوية في «الجيش الوطني».

وقد كانت هذه المحاججة أساس خطاب «الهيئة» لسكان تلك المناطق حين هاجمتها بهدف الاستيلاء عليها في عدة مناسبات، واعدة إياهم بتخليصهم من «الفوضى» وبتوحيد «المحرر» تحت سلطة مركزية واحدة تنشر «الأمان».

في حين أن «الأمن»، أي الطرف الآخر من الثنائية، كان البضاعة التي عرضتها قيادة «الهيئة» على زوارها من الباحثين والصحفيين الأجانب، بالقول إن استمرارها، بل ودعم جهاز أمنها، هو الضمانة لعدم تحول إدلب إلى بؤرة ينطلق منها الجهاد العالمي نحو الغرب. وهو ما أفصح عنه تقرير أعدّه بعض باحثي «مجموعة الأزمات الدولية» بعنوان «احتواء الجهاديين العابرين للحدود في شمال غرب سورية» لم يهتم لأثر تقوية «جهاز الأمن العام» على حياة السكان.

لكن يبدو أن عمودي دعاية «الأمن والأمان» تقوّضا الآن. فقد تبين لسكان المناطق المحررة أن ثمن الحماية من تجاوزات الفصائل كان، في الحقيقة، تنظيم هذه التجاوزات بيد فصيل كبير. وكذلك لم يعد بإمكان أحد، من زوار إدلب، تجاهل احتجاجات السكان ضد جهاز الأمن الذي ربما يكون محل تقديره النفعي.

في تظاهرات يوم الجمعة الفائت الكثير من سمات «سيرتها الأولى» إلى درجة مقلقة أحياناً. فمن جهة يزداد عدد المحتجين وتنضم نقاط جديدة إلى التظاهر وتُرفع شعارات سبق أن أشهرت ضد بشار الأسد، في حين ينظم أنصار الجولاني مسيرات مضادة تنادي له بالروح والدم. ومن جهة ثانية يبدو الفارق واضحاً بين تواضع إمكانات المتظاهرين وسيارات الدفع الرباعي التي يُخرجها عناصر «الهيئة» تأييداً. ومن جهة ثالثة يتوه الإعلام الرسمي للجماعة بين تجاهل ما يجري أو تغطية اللقاءات الإصلاحية أو التستر وراء أخبار غزة كالعادة.

وجه الشبه الأهم هو انطلاق المحتجين من خلفيات متباينة؛ فمنهم بقايا الحراك المدني الثوري، ومنهم متشددون على يمين «الهيئة» أو من كوادرها السابقين الذين غادروها لأسباب أيديولوجية، وأعضاء في «حزب التحرير» الإسلامي. تجمع بين هذه الشرائح المختلفة الآن مطالب موحدة تتمثل في «رفع الظلم» الذي مارسه «الأمن العام» لكنهم قد لا يتفقون كثيراً في ما هو بعد ذلك. وهو ما تستغله أجهزة الجولاني المتنوعة لتسألهم، أيضاً، عن البديل الذي يرشحونه.

خلافاً لما يتهمهم به خصومهم فهم لا يطالبون بتفكيك الأجهزة الإدارية القائمة في إدلب، بما فيها «حكومة الإنقاذ السورية»، بل بتخليصها من الهيمنة ومنحها الاستقلالية

وكما في «سيرتها الأولى» لا يملك المعارضون بديلاً ناجزاً الآن. وهم يدعون إلى تسليم قيادة المنطقة لمجلس جماعي يضم عدداً من المشايخ والأكاديميين والمقاتلين والوجهاء. وخلافاً لما يتهمهم به خصومهم فهم لا يطالبون بتفكيك الأجهزة الإدارية القائمة في إدلب، بما فيها «حكومة الإنقاذ السورية»، بل بتخليصها من الهيمنة ومنحها الاستقلالية. ومهما قيل عن مدى صورية هذه «المؤسسات» إلا أن الجولاني استطاع عبرها تنظيم عدد كبير من المنتمين إلى قطاعات مختلفة، وهو يعمل على حشدهم الآن في اجتماعات ومؤتمرات مؤيدة تشكّل، بمجموعها، حاضنة كبيرة من المرتبطين وذوي المصالح المقتنعين ببقاء الوضع الراهن، يضاف إليهم الرماديون وجماعة «بدنا نعيش» المتعبون من احتمال التغيير أصلاً.

شارك هذا المقال



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى